#الغرض من هذا المقال هو تخفيف التوتر والشقاق في مسألة قد تضخمت جداً وخرجت عن مقصدها الظاهر في نصوص الشرع#
لقد كان أكثر العرب قديما لايحسنون الاستدلال على دخول الشهر بدليل آخر غير الرؤية؛ فإذا غُمّ عليهم الهلال فما عندهم حينئذ إلا الشك المحض؛ وعلىٰ هذا يُحمل نهيه ﷺ:«لاتَصُومُوا حتّى تَرَوُا الهِلالَ، ولاتُفْطِرُوا حتّى تَرَوْهُ»، فإن الرؤية أمْرٌ معقول المعنىٰ أنه وسيلة للعلم بدخول الشهر وليس مقصودا بذاته في العبادة، فهذا النهي إذا أعملناه في صورة الشك المحض المستوي الطرفين فقد انتهينا عما نُهينا عنه من البناء علىٰ الشك الخالص، فهذا هو مورد النهي ومصدره، وإلا لامتنعَ الصوم والفطر إلا باليقين الذي لايتطرق إليه احتمال، وأيّ حرج أعظم من هذا ! ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ﴾.
قال ﷺ يخاطب الأمة الأمّية تيسيرا عليها: «صوموا لرؤيتِهِ وأفطِروا لرؤيتِهِ فإنْ غُمَّ علَيْكُم فأكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاثِينَ.» ؛ فلايجب عليكم الاحتياط للشهر من أوله بأن تجعلوا شعبان تسعا وعشرين بل اجعلوه ثلاثين ثم ابتدؤا الصوم بعد إكمال الثلاثين. وقالﷺ باسطا العذر في ذلك: «إنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ». وهذا منهﷺ تقديم للعذر لهذه الأمة التي لاحيلة لها عند احتجاب السماء إلا بأن تكمل شعبان ثلاثين ليكون البدء في العبادة على نور وبصيرة.
وهذا بناءً علىٰ قاعدة الشرع الكلّية: "الأصل بقاء ماكان علىٰ ماكان"، فلايُنتقل عن هذا الأصل بمجرد الشك والاحتمال. ولهذا قال ﷺ : «لاتستقبلوا رمضان بيوم من شعبان» وقال ﷺ : «لاتصوموا قبل رمضان...»
فنهانا ﷺ عن استعجال الصوم بناءً على مجرد الشك والاحتمال، فقال ﷺ: «لا تَقَدَّمُوا الشهرَ بصيامِ يوْمٍ ولا يَوْمَيْنِ، إلّا أنْ يكونَ شيءٌ يصومُهُ أحدُكم»
وفي لفظ ثابت محفوظ عن ابن عمر-رضي الله عنه-: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له»، فقد نبّه ابن تيمية إلى أن ابن عمر لم يكن يروي بالمعنى وأنه كان يحتاط ويتحرى اللفظ الذي سمعه من النبي ﷺ
قال ابن عبدالبر في التمهيد:-
"وقد كان بعض جلة التابعين فيما حكاه عنه محمد بن سيرين يذهب في هذا الباب إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب. وذهب بعض فقهاء البصريين إلىٰ أن معنى قولهﷺ: "فاقدروا له" ارتقاب منازل القمر،"
وفي التمهيد أيضا:-
"وقال ابن قتيبة في قولهﷺ : "فاقدروا له" أي: "فقدّروا السَّيْرَ والمنازل" . . . وقد حُكِيَ عن الشافعي أنه قال: "من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغُمَّ عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويُـبَـيّـِتَه، ويُجزِئُه"، والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه أنه لايصح اعتقاد رمضان إلا برؤية أو شهادة عادلة..."
أقول: العمل بالحساب وإن لم تصح نسبته للشافعي فيكفي أنه قول قد كان معروفا وقد قيل به فله من الاعتبار ماله.
قال القاضي أبوبكر ابن العربي في كتابه القبس:-
"...قال بعض التابعين: إن غم الهلال عُمل على تقديره بالحساب، فإذا قال الحاسب: هو الليلة على درجة من الشمس يمكن أن يظهر فيها عادة لو لم يكن غيم فإنه يُعمل على قوله في الصوم والفطر لقولهﷺ : «فاقدروا له» يريد: فاحسبوا تقدير منازله التي عبر الله عنها بقوله﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَاهُ مَنَازِلَ﴾ . . . "
ثم قال ابن العربي:-
"ونحن لاننكر أصل الحساب ولا جري العادة في تقدير المنازل . . . [ولكن] لايجوز أن يُعوّل في ذلك على قول الحساب لا لأنه باطل، ولكن صيانةً لعقائد الناس أن تناط بالعلويات وأن تُعلّق عباداتها بتداور الأفلاك ومواقعها في الاجتماع والاستقبال، وذلك بحر عجّاج إن دخلوا فيه غرقوا . . . »
قلتُ: هذا الخوف على عقائد الناس خوف خاطئ لاوجه له وذلك لأن الشارع هو الذي ربط العبادات بالعلويات ﴿أقِمِ ٱلصَّلَاةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ﴾ ﴿یَسۡـألُونَكَ عَنِ ٱلۡأهِلَّةِ قُلۡ هِيَ مَوَ اقِیتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ ، ثم إذا كان قد شاع التنجيم الباطل وادعاء علم الغيب في أهل الفلك قديما فكذلك الأطباء القدامىٰ كابن سينا وغيره قد افتتنوا بالفلسفة اليونانية ومافيها من إلحاد وتعطيل فهل ننكر مابرعوا فيه من الطب وننهىٰ عنه لأجل ذلك ؟!
وقال إمام اللغة أبومنصور الأزهري في كتابه:[الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي]
«..."فإن غم عليكم فاقدروا له" قوله: "اقدروا له" أي قدّروا له منازل القمر ومجراه فيها، يقال: قَدَرَ يُقدِر ويَقدُر معًا وقدّر يُقَدِّر بمعنى واحد، وفي حديث آخر: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" … ».
ثم نقل الأزهري عن ابن سريج في توجيه هذين الخبرين :-
«إن اختلاف الخطابين من النبي ﷺ كان على قدر افهام المخاطبين فأمر من لايُحسِن تقديرَ منازل القمر بإكمال عدد الشهر الذي هو فيه حتىٰ يكون دخوله في الشهر الآخر بيقين، وأمر من يُحسِن تقديرَه من الحُسّاب الذين لايخطئون فيما يحسبون -وذلك في النادر من الناس- بأن يحسبوا ويقدروا فإن استبان لهم كمال عدد الشهر -تسعا وعشرين كان أو ثلاثين- دخلوا فيما بعده ... ومما يشاكل هذا أن عوام الناس أجيز لهم تقليد أهل العلم فيما يستفتونهم فيه وأُمِر أهل العلم ومن له آلة الاجتهاد بأن يحتاط لنفسه ولايقلد إلا الكتاب والسنة ...».
فهذا ابن سريج إمام مجتهد متقدم حتىٰ قال الذهبي: «وَكَانَ يُفضَّل عَلَى جَمِيع أَصحَاب الشَّافِعِيّ، حَتَّى عَلَى المُزَنِيّ ! ».
قلتُ:
فقد ظهر أن العمل بالحساب بعد العجز عن الرؤية قول قديم وله أصل أصيل -لمن فهمه- من الكتاب والسنة.
قال ﷺ : "إنَّ الشهرَ يكون تسعةً وعشرين يومًا".
وقال ابن مسعود وأبو هريرة -رضي الله عنهما- : لَما صُمْنا مع النَّبيِّﷺ تسعًا وعشرينَ أكثرُ ممّا صُمْنا معه ثلاثينَ.
فلانتشدد؛ بل إذا تعذرت وسيلة الرؤية جاز لنا أن نجعل الشهر تسعًا وعشرين بوسيلة الحساب الفلكي الصحيح المنضبط.
قال ابن تيمية في كتابه[الرد على المنطقيين] صفحـ٣٠٥ـة :-
«وكذلك ما يُعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك = علمٌ صحيح لايُدفع...»
خبر: «..فاقدروا له» أشمل وأوسع في الدلالة من خبر: «فأكملوا العدة ثلاثين». وتفسيره بالتضييق غير مناسب هنا؛ لأنه ليس ثَمّ ضِيق ولا سَعة، بل المقام مقام التحري والتثبت في ابتداء زمان الفرض وانتهائه، ولو كان المراد هو التضييق لكان الواجب إذا غُمّ علينا هلال شوال أن نجعل رمضان تسعا وعشرين، ولكن الأمر علىٰ العكس تماما؛ فعلينا أن نوسع له أقصىٰ مايمكن أن يبلغه الشهر وهو ثلاثون يوما.
والأقرب أن الخبرين أحدهما إعمال وتطبيق للآخر، فقوله ﷺ: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» يحتمل وجوها وأنواعا من الاجتهاد في معرفة دخول الشهر، فالأُمّيّون لهم نوع (الاستبراء) بأن يكملوا شعبان ثلاثين، أما أهل الحساب فلهم عند تعذر الرؤية أن يعتمدوا على مايفيدهم غلبة الظن بدخول الشهر.
ومن نظائر ذلك أن الله أمرنا بالجهاد في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا۟ فِی اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وأمرَ بالقتال فقال: ﴿وَقَـاتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ اللهِ﴾، والقتال إنما هو نوع واحد من الجهاد وليس هو كل الجهاد بدليل قولهﷺ لعائشة لما سألته: هل على النساء جهاد ؟ فقالﷺ : «نعم، جهادٌ لا قتالَ فيه: الحجُّ والعمرةُ»
فالجهاد معنىً واسع يدخل فيه أنواع غير القتال من جهاد النفس والشيطان والجهاد الفكري الذي منه ردُّ المسائل الاجتهادية إلى وزنها ونصابها الصحيح لاسيما بعد تضخّمها وتحزب الناس فيها حتى صارت من معاقد الولاء والبراء ولم يبق إلا أن تُدرج في متون العقيدة المختصرة ! والله المستعان.
حديث إتمام الثلاثين تفسير تطبيقي بالمثال العملي الممكن وليس فيه حصر ولا حجر علىٰ من استطاع معرفة قدر الشهر بوسيلةٍ يقل الخطأ فيها فتفيد ظنا غالبا معتبرا ليس مجرد الاحتمال والتجويز، فيكفينا أن نرتفع عن حالة الشك المستوي الطرفين وهي حالة مهدرة في الشريعة.
والحق أن النصوص يحرم عزلها عن مقاصدها الظاهرة، فمن اعتمد وسيلة أخرى أهون من الضرب لإرغام ابنه على الصلاة فقد امتثل أمرهﷺ:«واضربوهم عليها لعشر»، فكذلك كل من عَلِمَ دخول الشهر بغير الرؤية جاز له العمل بهذا العلم، إذ الرؤية مجرد وسيلة لحصول العلم وليست غايةً في ذاتها. وليس الخطأ والتوهم خاصًّا بالحسابات الفلكية بل الرؤية كذلك غير معصومة من التوهم والخلل، وغايتها الظن الراجح، إلا إذا تواتر الشهود واختلفت جهاتهم، وهذا لايُشترط للعمل بالرؤية.
قال ابن عبدالبر في التمهيد:-
"قال الله عز وجل: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُ﴾ يريد -والله أعلم- من علمَ منكم بدخول الشهر، والعلم في ذلك ينقسم قسمين؛ أحدهما: ضروري، والآخر: غلبة ظن، فالضروري: أن يَرىٰ الإنسان الهلال بعينه في جماعة كان أو وحده، أو يستفيض الخبر عنده حتى يبلغ إلى حدٍ يوجب العلم، أو يتم شعبان ثلاثين يوما، فهذا كله يقينٌ يُعلم ضرورةً ولايمكن للمرء أن يشكّك في ذلك نفسه، وأما غلبة الظن: فأن يشهد بذلك شاهدان عدلان".
بل يكفي شاهد واحد عدل كما أفتىٰ بذلك الإمام ابن باز فقال رحمه الله:-
"لابد من شاهدين عدلين في جميع الشهور ما عدا دخول رمضان فيكفي لإثبات دخوله شخص واحد عدل، في أصح قولي العلماء؛ لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءىٰ الناس الهلال فأخبرت النبي ﷺ أني رأيته فصام وأمر بالصيام". وله شاهد حسن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما". https://cutt.ly/zzsB3XK
أفيصح في دين أو عقل أن نعتمد علىٰ رجل واحد لايؤمَن عليه الخطأ والتوهم ثم لانقبل اتفاق علماء الفلك وإجماعهم بعد انضباط هذا العلم والتطور الكبير في التقنيات والأجهزة الدقيقة المتقدمة !؟
سبحانك هذا بهتان عظيم !
وقولهﷺ: «إنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ» قرينة قوية جدا على أن أمرهﷺ باعتماد الرؤية ليس مقصودا لذاته بل المراد هو معرفة دخول الشهر بما تيسر من وسائل، وإلا لما صحّ لنا أن نصلي الظهر عند إطباق السحاب إلا بتأخيرها حتىٰ يُتيقّن دخول الوقت.
والشريعة شأنها واحد لايجوز التفريق بين أحكامها بالظواهر المحتملة، وقد تمحّل بعض الناس للتفريق بين اعتماد الحساب في الصلوات وبين اعتماده في الشهور تمحّلا عجيبا ! وذلك لأنهم قد حمّلوا قولهﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ...» فوق ما يحتمل حتى كأنّ رؤية الهلال شيءٌ مطلوب بذاته في الصوم والفطر !
فالحق الذي لاينبغي الاختلاف فيه هو أن ترائي الهلال وسيلة لاأكثر فإذا ترجح دخول الشهر بهذه الوسيلة أو بغيرها جاز الصوم والفطر.
قال الله تعالىٰ: ﴿...فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُ﴾
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- : "مَن أدرَكَ رَمَضانَ…"
وقالَ ابن عمر -رضي الله عنهما-: "مَن أدرَكَهُ رَمَضانُ…"
قالﷺ:«الفطرُ يومَ يفطِرُ النّاسُ، والأضحى يومَ يضحِّي النّاسُ» فلاحاجة إلى الاستفصال والتنقيب. وفي هذا أدب نبوي لكلا طرَفَي النزاع: الفلكيين المتكلفين من جهة وخصومهم المغالين في الرؤية من جهة أخرىٰ سواءٌ أخذ إمامهم بالحساب أو بالرؤية؛ فيجب على كل أحد أن يصوم ويفطر مع الجماعة أو ليسكت ولايجعل العبادة سببا للفتنة والفساد والتشاحن.
قال عبدالرزاق في مصنفه:-
"قال جعفر: وأخبرني أسماء بن عبيد قال: أتينا محمد بن سيرين في اليوم الذي يُشك فيه فقلنا: كيف نصنع؟ فقال لغلامه: "اذهب فانظر أصامَ الأميرُ أم لا؟" -قال: والأمير يومئذ عَدِيُّ بن أرطاة-، فرجع إليه فقال: "وجدته مفطرا"، قال: فدعا محمدٌ بغدائه فتغدّىٰ فتغدينا معه".
وذكر ابن عبدالبر في التمهيد عن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يقولان: "يفعل الناسُ مايفعل إمامُهم".
ثم قال ابن عبدالبر:-
"قد أجمعوا علىٰ أن الجماعة لو أخطأت الهلال في ذي الحجة فوقفت بعرفة في اليوم العاشر أن ذلك يجزئها، فكذلك الفطر والأضحىٰ والله أعلم."
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.