الجمعة، 5 مارس 2021

الحساب الفلكي في ظاهر نصوص الشرع

#الغرض من هذا المقال هو تخفيف التوتر والشقاق في مسألة قد تضخمت جداً وخرجت عن مقصدها الظاهر في نصوص الشرع#

   لقد كان أكثر العرب قديما لايحسنون الاستدلال على دخول الشهر بدليل آخر غير الرؤية؛ فإذا غُمّ عليهم الهلال فما عندهم حينئذ إلا الشك المحض؛ وعلىٰ هذا يُحمل نهيه ﷺ:«لاتَصُومُوا حتّى تَرَوُا الهِلالَ، ولاتُفْطِرُوا حتّى تَرَوْهُ»، فإن الرؤية أمْرٌ معقول المعنىٰ أنه وسيلة للعلم بدخول الشهر وليس مقصودا بذاته في العبادة، فهذا النهي إذا أعملناه في صورة الشك المحض المستوي الطرفين فقد انتهينا عما نُهينا عنه من البناء علىٰ الشك الخالص، فهذا هو مورد النهي ومصدره، وإلا لامتنعَ الصوم والفطر إلا باليقين الذي لايتطرق إليه احتمال، وأيّ حرج أعظم من هذا ! ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ﴾.
 قال ﷺ يخاطب الأمة الأمّية تيسيرا عليها: «صوموا لرؤيتِهِ وأفطِروا لرؤيتِهِ فإنْ غُمَّ علَيْكُم فأكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاثِينَ.» ؛ فلايجب عليكم الاحتياط للشهر من أوله بأن تجعلوا شعبان تسعا وعشرين بل اجعلوه ثلاثين ثم ابتدؤا الصوم بعد إكمال الثلاثين. وقالﷺ باسطا العذر في ذلك: «إنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ». وهذا منهﷺ تقديم للعذر لهذه الأمة التي لاحيلة لها عند احتجاب السماء إلا بأن تكمل شعبان ثلاثين ليكون البدء في العبادة على نور وبصيرة.
وهذا بناءً علىٰ قاعدة الشرع الكلّية: "الأصل بقاء ماكان علىٰ ماكان"، فلايُنتقل عن هذا الأصل بمجرد الشك والاحتمال. ولهذا قال ﷺ : «لاتستقبلوا رمضان بيوم من شعبان» وقال ﷺ : «لاتصوموا قبل رمضان...»
فنهانا ﷺ عن استعجال الصوم بناءً على مجرد الشك والاحتمال، فقال ﷺ: «لا تَقَدَّمُوا الشهرَ بصيامِ يوْمٍ ولا يَوْمَيْنِ، إلّا أنْ يكونَ شيءٌ يصومُهُ أحدُكم»

وفي لفظ ثابت محفوظ عن ابن عمر-رضي الله عنه-: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له»، فقد نبّه ابن تيمية إلى أن ابن عمر لم يكن يروي بالمعنى وأنه كان يحتاط ويتحرى اللفظ الذي سمعه من النبي ﷺ 

قال ابن عبدالبر في التمهيد:-
"وقد كان بعض جلة التابعين فيما حكاه عنه محمد بن سيرين يذهب في هذا الباب إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب. وذهب بعض فقهاء البصريين إلىٰ أن معنى قولهﷺ: "فاقدروا له" ارتقاب منازل القمر،"
وفي التمهيد أيضا:-
"وقال ابن قتيبة في قولهﷺ : "فاقدروا له" أي: "فقدّروا السَّيْرَ والمنازل" . . . وقد حُكِيَ عن الشافعي أنه قال: "من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغُمَّ عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويُـبَـيّـِتَه، ويُجزِئُه"، والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه أنه لايصح اعتقاد رمضان إلا برؤية أو شهادة عادلة..."
أقول: العمل بالحساب وإن لم تصح نسبته للشافعي فيكفي أنه قول قد كان معروفا وقد قيل به فله من الاعتبار ماله.

قال القاضي أبوبكر ابن العربي في كتابه القبس:- 
"...قال بعض التابعين: إن غم الهلال عُمل على تقديره بالحساب، فإذا قال الحاسب: هو الليلة على درجة من الشمس يمكن أن يظهر فيها عادة لو لم يكن غيم فإنه يُعمل على قوله في الصوم والفطر لقولهﷺ : «فاقدروا له» يريد: فاحسبوا تقدير منازله التي عبر الله عنها بقوله﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَاهُ مَنَازِلَ﴾ . . . "
ثم قال ابن العربي:-
 "ونحن لاننكر أصل الحساب ولا جري العادة في تقدير المنازل . . . [ولكن] لايجوز أن يُعوّل في ذلك على قول الحساب لا لأنه باطل، ولكن صيانةً لعقائد الناس أن تناط بالعلويات وأن تُعلّق عباداتها بتداور الأفلاك ومواقعها في الاجتماع والاستقبال، وذلك بحر عجّاج إن دخلوا فيه غرقوا . . . »  
قلتُ: هذا الخوف على عقائد الناس خوف خاطئ لاوجه له وذلك لأن الشارع هو الذي ربط العبادات بالعلويات ﴿أقِمِ ٱلصَّلَاةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ﴾ ﴿یَسۡـألُونَكَ عَنِ ٱلۡأهِلَّةِ قُلۡ هِيَ مَوَ ا⁠قِیتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ ، ثم إذا كان قد شاع التنجيم الباطل وادعاء علم الغيب في أهل الفلك قديما فكذلك الأطباء القدامىٰ كابن سينا وغيره قد افتتنوا بالفلسفة اليونانية ومافيها من إلحاد وتعطيل فهل ننكر مابرعوا فيه من الطب وننهىٰ عنه لأجل ذلك ؟! 

وقال إمام اللغة أبومنصور الأزهري في كتابه:[الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي]
«..."فإن غم عليكم فاقدروا له" قوله: "اقدروا له" أي قدّروا له منازل القمر ومجراه فيها، يقال: قَدَرَ يُقدِر ويَقدُر معًا وقدّر يُقَدِّر بمعنى واحد، وفي حديث آخر: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" … ».
ثم نقل الأزهري عن ابن سريج في توجيه هذين الخبرين :-
«إن اختلاف الخطابين من النبي ﷺ كان على قدر افهام المخاطبين فأمر من لايُحسِن تقديرَ منازل القمر بإكمال عدد الشهر الذي هو فيه حتىٰ يكون دخوله في الشهر الآخر بيقين، وأمر من يُحسِن تقديرَه من الحُسّاب الذين لايخطئون فيما يحسبون -وذلك في النادر من الناس- بأن يحسبوا ويقدروا فإن استبان لهم كمال عدد الشهر -تسعا وعشرين كان أو ثلاثين- دخلوا فيما بعده ... ومما يشاكل هذا أن عوام الناس أجيز لهم تقليد أهل العلم فيما يستفتونهم فيه وأُمِر أهل العلم ومن له آلة الاجتهاد بأن يحتاط لنفسه ولايقلد إلا الكتاب والسنة ...».
    فهذا ابن سريج إمام مجتهد متقدم حتىٰ قال الذهبي: «وَكَانَ يُفضَّل عَلَى جَمِيع أَصحَاب الشَّافِعِيّ، حَتَّى عَلَى المُزَنِيّ ! ».
قلتُ:
فقد ظهر أن العمل بالحساب بعد العجز عن الرؤية قول قديم وله أصل أصيل -لمن فهمه- من الكتاب والسنة.
قال ﷺ : "إنَّ الشهرَ يكون تسعةً وعشرين يومًا".
وقال ابن مسعود وأبو هريرة -رضي الله عنهما- : لَما صُمْنا مع النَّبيِّﷺ تسعًا وعشرينَ أكثرُ ممّا صُمْنا معه ثلاثينَ.
فلانتشدد؛ بل إذا تعذرت وسيلة الرؤية جاز لنا أن نجعل الشهر تسعًا وعشرين بوسيلة الحساب الفلكي الصحيح المنضبط.
قال ابن تيمية في كتابه[الرد على المنطقيين] صفحـ٣٠٥ـة :-
«وكذلك ما يُعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك = علمٌ صحيح لايُدفع...»

    خبر: «..فاقدروا له» أشمل وأوسع في الدلالة من خبر: «فأكملوا العدة ثلاثين». وتفسيره بالتضييق غير مناسب هنا؛ لأنه ليس ثَمّ ضِيق ولا سَعة، بل المقام مقام التحري والتثبت في ابتداء زمان الفرض وانتهائه، ولو كان المراد هو التضييق لكان الواجب إذا غُمّ علينا هلال شوال أن نجعل رمضان تسعا وعشرين، ولكن الأمر علىٰ العكس تماما؛ فعلينا أن نوسع له أقصىٰ مايمكن أن يبلغه الشهر وهو ثلاثون يوما.
   والأقرب أن الخبرين أحدهما إعمال وتطبيق للآخر، فقوله ﷺ: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» يحتمل وجوها وأنواعا من الاجتهاد في معرفة دخول الشهر، فالأُمّيّون لهم نوع (الاستبراء) بأن يكملوا شعبان ثلاثين، أما أهل الحساب فلهم عند تعذر الرؤية أن يعتمدوا على مايفيدهم غلبة الظن بدخول الشهر.
    ومن نظائر ذلك أن الله أمرنا بالجهاد في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا۟ فِی اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وأمرَ بالقتال فقال: ﴿وَقَـاتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ اللهِ﴾، والقتال إنما هو نوع واحد من الجهاد وليس هو كل الجهاد بدليل قولهﷺ لعائشة لما سألته: هل على النساء جهاد ؟ فقالﷺ : «نعم، جهادٌ لا قتالَ فيه: الحجُّ والعمرةُ»
 فالجهاد معنىً واسع يدخل فيه أنواع غير القتال من جهاد النفس والشيطان والجهاد الفكري الذي منه ردُّ المسائل الاجتهادية إلى وزنها ونصابها الصحيح لاسيما بعد تضخّمها وتحزب الناس فيها حتى صارت من معاقد الولاء والبراء ولم يبق إلا أن تُدرج في متون العقيدة المختصرة ! والله المستعان.
حديث إتمام الثلاثين تفسير تطبيقي بالمثال العملي الممكن وليس فيه حصر ولا حجر علىٰ من استطاع معرفة قدر الشهر بوسيلةٍ يقل الخطأ فيها فتفيد ظنا غالبا معتبرا ليس مجرد الاحتمال والتجويز، فيكفينا أن نرتفع عن حالة الشك المستوي الطرفين وهي حالة مهدرة في الشريعة.
    والحق أن النصوص يحرم عزلها عن مقاصدها الظاهرة، فمن اعتمد وسيلة أخرى أهون من الضرب لإرغام ابنه على الصلاة فقد امتثل أمرهﷺ:«واضربوهم عليها لعشر»، فكذلك كل من عَلِمَ دخول الشهر بغير الرؤية جاز له العمل بهذا العلم، إذ الرؤية مجرد وسيلة لحصول العلم وليست غايةً في ذاتها. وليس الخطأ والتوهم خاصًّا بالحسابات الفلكية بل الرؤية كذلك غير معصومة من التوهم والخلل، وغايتها الظن الراجح، إلا إذا تواتر الشهود واختلفت جهاتهم، وهذا لايُشترط للعمل بالرؤية.
قال ابن عبدالبر في التمهيد:-
"قال الله عز وجل: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُ﴾ يريد -والله أعلم- من علمَ منكم بدخول الشهر، والعلم في ذلك ينقسم قسمين؛ أحدهما: ضروري، والآخر: غلبة ظن، فالضروري: أن يَرىٰ الإنسان الهلال بعينه في جماعة كان أو وحده، أو يستفيض الخبر عنده حتى يبلغ إلى حدٍ يوجب العلم، أو يتم شعبان ثلاثين يوما، فهذا كله يقينٌ يُعلم ضرورةً ولايمكن للمرء أن يشكّك في ذلك نفسه، وأما غلبة الظن: فأن يشهد بذلك شاهدان عدلان".
بل يكفي شاهد واحد عدل كما أفتىٰ بذلك الإمام ابن باز فقال رحمه الله:-
"لابد من شاهدين عدلين في جميع الشهور ما عدا دخول رمضان فيكفي لإثبات دخوله شخص واحد عدل، في أصح قولي العلماء؛ لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءىٰ الناس الهلال فأخبرت النبي ﷺ أني رأيته فصام وأمر بالصيام". وله شاهد حسن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما".  https://cutt.ly/zzsB3XK
أفيصح في دين أو عقل أن نعتمد علىٰ رجل واحد لايؤمَن عليه الخطأ والتوهم ثم لانقبل اتفاق علماء الفلك وإجماعهم بعد انضباط هذا العلم والتطور الكبير في التقنيات والأجهزة الدقيقة المتقدمة !؟ 
سبحانك هذا بهتان عظيم !
      وقولهﷺ: «إنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ» قرينة قوية جدا على أن أمرهﷺ باعتماد الرؤية ليس مقصودا لذاته بل المراد هو معرفة دخول الشهر بما تيسر من وسائل، وإلا لما صحّ لنا أن نصلي الظهر عند إطباق السحاب إلا بتأخيرها حتىٰ يُتيقّن دخول الوقت.
    والشريعة شأنها واحد لايجوز التفريق بين أحكامها بالظواهر المحتملة، وقد تمحّل بعض الناس للتفريق بين اعتماد الحساب في الصلوات وبين اعتماده في الشهور تمحّلا عجيبا ! وذلك لأنهم قد حمّلوا قولهﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ...» فوق ما يحتمل حتى كأنّ رؤية الهلال شيءٌ مطلوب بذاته في الصوم والفطر ! 
   فالحق الذي لاينبغي الاختلاف فيه هو أن ترائي الهلال وسيلة لاأكثر فإذا ترجح دخول الشهر بهذه الوسيلة أو بغيرها جاز الصوم والفطر.
قال الله تعالىٰ: ﴿...فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُ﴾ 
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- : "مَن أدرَكَ رَمَضانَ…"
وقالَ ابن عمر -رضي الله عنهما-: "مَن أدرَكَهُ رَمَضانُ…"

  قالﷺ:«الفطرُ يومَ يفطِرُ النّاسُ، والأضحى يومَ يضحِّي النّاسُ» فلاحاجة إلى الاستفصال والتنقيب. وفي هذا أدب نبوي لكلا طرَفَي النزاع: الفلكيين المتكلفين من جهة وخصومهم المغالين في الرؤية من جهة أخرىٰ سواءٌ أخذ إمامهم بالحساب أو بالرؤية؛ فيجب على كل أحد أن يصوم ويفطر مع الجماعة أو ليسكت ولايجعل العبادة سببا للفتنة والفساد والتشاحن.
قال عبدالرزاق في مصنفه:-
"قال جعفر: وأخبرني أسماء بن عبيد قال: أتينا محمد بن سيرين في اليوم الذي يُشك فيه فقلنا: كيف نصنع؟ فقال لغلامه: "اذهب فانظر أصامَ الأميرُ أم لا؟" -قال: والأمير يومئذ عَدِيُّ بن أرطاة-، فرجع إليه فقال: "وجدته مفطرا"، قال: فدعا محمدٌ بغدائه فتغدّىٰ فتغدينا معه".
وذكر ابن عبدالبر في التمهيد عن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يقولان: "يفعل الناسُ مايفعل إمامُهم".
ثم قال ابن عبدالبر:-
"قد أجمعوا علىٰ أن الجماعة لو أخطأت الهلال في ذي الحجة فوقفت بعرفة في اليوم العاشر أن ذلك يجزئها، فكذلك الفطر والأضحىٰ والله أعلم."

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

السبت، 6 يونيو 2020

مسائل من الصيام

#الصيام عن الميت:-
صيام رمضان لايُقضىٰ عن الميت، ودليل ذلك أنه لايصام بالإجماع عن العاجز الحي فكذلك الميت. 
فقولهﷺ: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» خاص بالنذر، وليس علىٰ إطلاقه وأحاديث الباب الأخرىٰ توضح ذلك وتدل عليه. وقد أفتت عائشة -وهي راوية الحديث- بأنه يُطعَم عنه في قضاء رمضان ولايُصام، وكذلك أفتىٰ ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
وانظر جامع المسائل-المجموعة الرابعة صفحة ٢٣٩ و ٢٤٦ .

==================================
#الكفارة على من أفطر بغير عذر:-
لافرق بين الجماع والأكل في هتك حرمة الصوم، فجماع الأهل مباح كإباحة الطعام والشراب لولا الصيام، وليس في الجماع معنىً يقتضي تخصيصه بالكفارة إلا أنه اقتحام لحرمة نهار رمضان !
   وحديث من جامع أهله قضية عين لامفهوم لها بدليل أنه رُوِيَ في الموطأ وصحيح مسلم من غير ذكر الجماع لكن بلفظ: «أن رجلا أفطر في رمضان» ولئن كان هذا من الرواية بالمعنىٰ فأقل مايدل عليه هو أن الصحابي أو التابعي الراوي للحديث لم يرَ للجماع خصوصية تقتضي تعيينه دون الأكل والشرب. فيكون من الفقه القديم المأثور عن خير القرون والسلف الصالح. والله أعلم.
وفي التمهيد لابن عبدالبر [١٩٩/٩-٢٠١] :-
"...وقال الأوزاعي وسُئِل عن رجل أفطر في شهر رمضان متعمدا فلم يجد كفارة المفطر ولم يقدر على الصيام أيَسأل في الكفارة؟ فقال: "رد رسول اللهﷺ كفارة المفطر علىٰ أهله، فليستغفر الله ولايعد"، ولم ير عليه شيئا إذا كان في وقت وجوب الكفارة عليه معسرا. وقال الشافعي: "قول رسول اللهﷺ : «كلْه وأطعمه أهلك» يحتمل معانيَ؛ منها : أنه لما كان في الوقت الذي أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات تطوع رسول اللهﷺ بأن قال له في شيءٍ أُتِيَ به: «كفّر به» فلما ذكر الحاجة ولم يكن الرجل قبضه قال له: «كله وأطعمه أهلك» وجعل التمليك له حينئذ مع القبض. ويحتمل أن يكون لمّا مَلَكَه وهو محتاج -وكان إنما تكون الكفارة عليه إذا كان عنده فضل ولم يكن عنده فضل- كان له أن يأكله هو وأهله لحاجته. ويحتمل في هذا أن تكون الكفارة دَينا عليه متى أطاقها أداها وإن كان ذلك ليس في الخبر، وكان هذا أحب إلينا وأقرب من الاحتياط. قال: ويحتمل إذا كان لايقدر على شيء من الكفارات وكان لغيره أن يكفر عنه أن يكون لغيره أن يتصدق عليه وعلى أهله إذا كانوا محتاجين بتلك الكفارة وتجزي عنه. ويحتمل أن يكون إذا لم يقدر على شيء في حاله تلك أن تكون الكفارة ساقطة عنه إذا كان مغلوبا كما سقطت الصلاة عن المغمىٰ عليه إذا كان مغلوبا. والله أعلم."
"واختلفوا في الكفارة على المرأة إذا وطئها زوجها وهي طائعة في رمضان فقال مالك: إذا طاوعته زوجته فعلى كل واحد منهما كفارة، وإن أكرهها فعليه كفارتان عنه وعنها، وكذلك إذا وطىء أمته كفر كفارتين. وقال الأوزاعي: سواءٌ طاوعته أو أكرهها فليس عليهما إلا كفارة واحدة إن كفر بالعتق أو بالإطعام، فإن كفر بالصيام فعلىٰ كل واحدٍ منهما صيام شهرين متتابعين.."

=================================
#الحجامة والقيء والاستمناء:-
   أي شيء يُستخرج من الجسم عمدًا من قيء أو دم أو منيّ فالأصل صحة الصيام حتى تقوم الحجة اللازمة على أنه مفسد للصوم. 
قال ابن عباس : " الصوم مما دَخَلَ وليس مما خَرَجَ". 
وقال أبو هريرة : "إذا قاءَ فلايفطر؛ إنما يخرج ولايولج".
ذكره عنهما البخاري في صحيحه رضي الله عنهما.
 وهذه قاعدة كلية محكمة في كل مايُزعم أنه مفسد للصوم مما يُستخرج من الجسم عمدا.
    أما الحجامة: فقولهﷺ: «أفطر الحاجم والمحجوم» ورد أنه قاله في غزوة الفتح ثم رخص فيه بعد، فقد ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: "رُخِّصَ في الحجامة للصائم" . وثبت عن ابن عباس أن النبيﷺ احتجم وهو صائم. وذلك في حجة الوداع. 
والمأثور عن الصحابة الرخصة في الحجامة للصائم، ومن كرهها منهم فلأجل الضعف والجهد والتغرير بالصوم. 

    وأما القيء: فحديث أبي هريرة: "...من استقاء فعليه القضاء" =
 قد أعلّه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وقال ابن القيم: "إن الحفّاظ لايرونه محفوظا".
وقال أبو هريرة : "إذا قاءَ فلايفطر؛ إنما يخرج ولايولج".
 والأصل صحة الصيام حتى يقوم البرهان على فساده.
   
     وأما الاستمناء المباح كمداعبة الزوجة حتى الإنزال فالآثار دالة علىٰ العفو عنه، وما ترتب على المأذون فهو مأذون، أما الاستمناء المحرم بالنظر للحرام ونحوه فهو كالغيبة وقول الزور ينقص الأجر ولايمنع الإجزاء. 
والجماع مفطر بالإجماع بمجرد إيلاج الذكر في الفرج ولاشأنَ للإنزال في إفساد الصوم. 
والأصل أن الإنزال بغير وطء لايساوي الوطء نفسه، فلابد من دليل خاص كما ثبت وجوب الغسل بمجرد الإنزال. فلولا الدليل الخاص لما كان لنا أن نوجب الغسل على المحتلم والمستمني بالقياس علىٰ الناكح المُجامع.
روىٰ عبدالرزاق الصنعاني في مصنفه عن مسروق قال: سألت عائشة: "ما يحل للرجل من امرأته صائما؟" قالت: «كل شيء إلا الجماع»
وذكر أيضا عن مسروق قال: دخلت على عائشة، فقلت: "يا أم المؤمنين ما يحل للرجل من امرأته حائضا؟" قالت: «ما دون الفرج». قال: فغمز مسروقٌ بيده رجلا كان معه أي اسمع، قال: قلت: "فما يحل لي منها صائما؟" قالت: «كل شيء إلا الجماع».
وروىٰ أبوجعفر الطحاوي في كتابه (شرح معاني الآثار) عن سعد بن أبي وقاص وسأله رجل: "أتباشر وأنت صائم؟" فقال: «نعم».
وعن ابن مسعود كذلك أنه كان يباشر وهو صائم.
وعن أبي مرة مولىٰ عقيل عن حكيم بن عقال أنه قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- : "ما يحرم علَيّ من امرأتي وأنا صائم؟" قالت: "فرجها" .
قلتُ:
فلو كان الإنزال بدون وطء مفسدا للصوم لوجب التحذير والتنبيه والبيان وما سكتَ عنه الصحابة الكرام أعلم الأمة وأنصحهم لها وأتقاهم وأخشاهم لله.
 وإفساد الصوم بمجرد الإنزال من العلم الواجب تبليغه للأمة لو كان حقا، لارتباطه بصحة ركن من أركان الإسلام ولعموم البلوىٰ به.
قال الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات:-
"ما سُكِتَ عنه فهو عفو؛ لأنه إذا كان مسكوتًا عنه مع وجود مظـنـته فهو دليلٌ علىٰ العفو فيه".
وقد قال رسول اللهﷺ: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ فرض فرائضَ فلا تُضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتَدوها، وسكت عن أشياءَ رحمةً لكم غيرَ نِسيانٍ فلاتبحثُوا عنها» حسنه النووي وغيره.
والاستفصال عن خروج الماء الدافق (المني) حالَ اليقظة بفعلٍ من الصائم والحكم بفساد الصوم إنما بدأ في زمن التابعين كما يتبين من آثارهم إلىٰ أن استقرت المذاهب المعروفة علىٰ ذلك، ماعدا بعض مجتهدي الحنفية المتقدمين ثم ابن حزم إلىٰ أن نهض لها الشيخ الألباني في هذا العصر فكشف عن نقابها وأعادها إلىٰ نصابها.
أما الصحابة -رضي الله عنهم- فغاية ماورد عنهم هو التخوف على الشابّ أن ينجرّ إلى الجماع وألا يملك أربه في ذلك، فكانوا يتناهون عن ذلك حفظا للصوم واحتياطا له. 
‏وعلىٰ هذا: فمن علم من نفسه تمالكها وتماسكها عن الوقاع فله في رسول اللهﷺ وصحابته الكرام أسوة حسنة في مباشرة الأهل والتمتع بما أباح الله له من ذلك والحمد لله.
وكذلك كراهة السواك آخر النهار للصائم؛ أوّلُ من قال به بعض التابعين اجتهادًا منهم لأجل خلوف فم الصائم وأنه أطيب عند الله من ريح المسك، أما الصحابة -رضي الله عنهم- فعلىٰ استحباب السواك للصائم مطلقا دون تفريق بين أول النهار وآخره.




==================================

﴿...ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ﴾
في لسان العرب مانصه:-
«وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ﴾؛  يَعْنِي بياضَ الصبحِ وسوادَ اللَّيْلِ، وَهُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ بالخَيْطِ لدِقَّته، وَقِيلَ: الخيطُ الأَسود الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَالْخَيْطُ الأَبيض الْفَجْرُ المُعْتَرِضُ؛ قَالَ أَبو دُواد الإِيادي:
فلمَّا أَضاءتْ لَنا سُدفةٌ، ... ولاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنارا
قَالَ أَبو إِسحاق: هُمَا فَجْرانِ، أَحدهما يَبْدُو أَسود مُعْترضاً وَهُوَ الْخَيْطُ الأَسود، وَالْآخَرُ يَبْدُو طَالِعًا مُسْتَطِيلًا يَمْلأُ الأُفق فَهُوَ الْخَيْطُ الأَبيض، وَحَقِيقَتُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الليلُ مِنَ النَّهَارِ، وَقَوْلُ أَبي دُوَادٍ: أَضاءت لَنَا سُدفَة، هِيَ هَاهُنَا الظُّلمة؛ ولاحَ مِنَ الصُّبْحِ أَي: بَدا وَظَهَرَ، وَقِيلَ: الخيْطُ اللَّوْنُ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّﷺ فِي تَفْسِيرِ الخَيْطَيْنِ: إِنما ذَلِكَ سوادُ الليلِ وبياضُ النَّهَارِ . . .
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ أَخذَ حَبْلًا أَسودَ وَحَبْلًا أَبيضَ وَجَعَلَهُمَا تَحْتَ وِسادِه لِيَنْظُرَ إِليهما عِنْدَ الْفَجْرِ، وَجَاءَ إِلى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَعلمه بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنك لعَريضُ القَفا، لَيْسَ الْمَعْنَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بياضُ الفجرِ مِنْ سوادِ الليلِ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ بياضَ النَّهَارِ وَظُلْمَةَ اللَّيْلِ.»

قال ابن كثير في تفسيره:-
"وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُمَا فَجْرَانِ، فَأَمَّا الذِي يَسْطَعُ فِي السَّمَاءِ فَلَيْسَ يُحِلّ وَلَايحرِّم شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْفَجْرَ الذِي يَسْتَبِينُ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ، هُوَ الذِي يُحَرِّمُ الشَّرَابَ. قَالَ عَطَاءٌ: فَأَمَّا إِذَا سَطَعَ سُطُوعًا فِي السَّمَاءِ، وَسُطُوعُهُ أَنْ يَذْهَبَ فِي السَّمَاءِ طُولًا فَإِنَّهُ لَايَحْرُمُ بِهِ شَرَابٌ لِصِيَامٍ وَلَا صَلَاةٌ، وَلَايَفُوتُ بِهِ حَجٌّ وَلَكِنْ إِذَا انْتَشَرَ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ، حَرَّمَ الشَّرَابَ لِلصِّيَامِ وَفَاتَ الْحَجُّ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ، وَهَكَذَا رُوي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ."
وفي تفسير ابن عطية:-


قلتُ:
 فهو خيط دقيق في بدايته ولكنْ قد مَدَّ اللهُ لنا الأكل والشرب حتىٰ يتبين وينفجر وينتشر حتىٰ تسهل رؤيته داخل المدينة في البنيان ظاهرًا بدون تكلّف. فتَبَـيُّنه هو أن يظهر جدا حتىٰ لايرتاب فيه أحد.
والسنة المؤكدة أن يفرغ من سحوره قبل الأذان ليستعد لصلاة الفجر على أكمل وجه، هذا هو الأصل، إلا عند الحاجة أو الضرورة، فالواجب هو أن يمسك عن المفطرات في وقت الفجر، والمستحب أن يمسك قبل الفجر. كما أن لصلاة العصر والعشاء وقتين: وقت اختيار، ووقت ضرورة، فكذلك الإمساك في الصيام، وبهذا تجتمع الآثار وتتشابه الشريعة في توقيت الصلاة والصيام رفعا للحرج وتوسعة على المسلمين.

والحمد لله رب العالمين.



الخميس، 21 فبراير 2019

الشطرنج والألعاب المتطاولة

الشطرنج وأمثالها من الألعاب التي تمتد زمنا طويلا في إشغال القلب والفكر لا ينبغي وصفها بالمباح المطلق، فإن الأمر الذي يلهي القلب ويشغل الفكر الساعات الطويلة عن ذكر الله والعلم النافع والتعبد بما يحبه الله ويرضاه لايمكن أن يكون مباحا إباحة كاملة في دينٍ يدعو للجد والمسارعة في السير إلى الله وتحقيق العبودية له سبحانه وتعالى وهذا بعيد عن رجل مشغول بتلك الألعاب عن الازدياد من العلم والعمل والذكر والقرآن وتدبره ومجالسة أهله والاجتهاد في ذلك.
ولذا فإن القول بالكراهة قول وسط تجتمع فيه مآخذ الشريعة السمحة، أما الاستكثار منه إلى حد الضرر فهو أمر قد يلحق كل مباح فيجعله حراما، ولكن لأن الشطرنج وأمثالها شيء لاتتعلق به حاجة ملحة وقليله يزيّن كثيرَه ويدعو إليه فإن إباحته إباحة مطلقة قول ضعيف لا يناسب روح هذه الشريعة، والله أعلم.

ولكن التحريم العام على كل أحد أن يلعبها غير سديد فقد يلعبها بعضهم يوما في الأسبوع يُجم نفسه لتنشط للجد مرة أخرى، ولابد من شيء من التنفيس، وقد قال علي رضي الله عنه:-«ليس من أحد إلا وفيه حمقة فبها يعيش».
ولقد أحسن الشاعر إذ قال:
لن يُصلح النفسَ إن كانت مصرَّفةً
                                إلا التنقلُ من حال إلى حالِ

وقد قال النبي ﷺ :- «كلُّ شيءٍ يلهو بِه الرَّجلُ باطلٌ إلَّا رميَه بقوسِه وتأديبَه فرسَه وملاعبتَه امرأتَه فإنَّهنَّ منَ الحقِّ».
وإطلاق البطلان لا يعني التحريم وإلا لحرم كل شيء سوى الله حيث صدّق النبي ﷺ كلمة الشاعر: (ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ)
والمقصود: أنه ذاهب مضمحل.
ويمكن بهذا الفهم نسبة عدم التحريم إلى ابن المسيب وابن شهاب فقد روى عنهما البيهقي قولهما إذ سُئلا عن الشطرنج: «هي باطل، ولايحب الله الباطل»

في مجموع الفتاوى لابن تيمية[243/32] :-
«وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم: النرد شَرٌّ من الشطرنج.»

قلتُ:
هذا صريح في أن الشطرنج دون النرد عند هؤلاء الأئمة، وكأنهم لاحظوا أن النرد منصوص عليه في حديث مرفوع إلى النبي ﷺ وليس كذلك الشطرنج، أو لأن ارتباط النرد بالقمار أكثر وأظهر، فهذا ظاهر في أنهم لم يلتفتوا إلى كون الشطرنج يلهي ويُشغل عن ذكر الله وماينفع في الدنيا والآخرة وإلا لكانت الشطرنج شَرًّا من النرد.

وقال رحمه الله [222/32] :-
«..وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي بريدة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه» وفي لفظ آخر: "فليشقص الخنازير" فجعل النبي ﷺ في هذا الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه وكالذي يشقص الخنازير: يقصبها ويقطع لحمها كما يصنع القصاب. وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد سواء وجد أكل أو لم يوجد كما أن غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك سواء كان معه أكل بالفم أو لم يكن فكما أن ذلك ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل ... فكذلك النرد يُنهىٰ عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل.»

قلتُ:-
تشبيه النبي ﷺ اللاعبَ بها بغامس يده في لحم الخنزير ولم يشبّهه بالآكل مع أن الأكل هو المقصود بالتحريم وغمس اليد وسيلة والأكل هو الغاية ، يدل على أن تحريمه كان سدًّا لذريعة المقامرة عليه. والنرد الذي هو الأصل في تحريم الشطرنج قد ارتبط قديما بالقمار والميسر ، وهذا ظاهر في الآثار الواردة فيه.
فمن ذلك ماذكره الآجري في كتابه(تحريم النرد والشطرنج والملاهي):-
- عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي , أنه سمع محمد بن كعب , يسأل أباه في شأن الميسر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لعب بالميسر ثم قام يصلي فمثله كمثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير. أفتقول: يقبل الله صلاته.
ومن ذلك ما رواه عن ابن عباس , قال: «الميسر قداح العرب وكعاب فارس».

★ الميسر هو المقامرة على مال، وإلا فلا يُسمى قمارا ولا ميسرا وكان ارتباط اللعب بالقمار والمخاطرة ولو على التافه من الأموال هو العلة والمناط للتحريم ، فقال الآجري:-
باب ذكر من كان يكسر النرد وخطة أربعة عشر ويحرقها ولا يسلم على من يلعب بالشطرنج وأشباه ذلك.
قال محمد بن الحسين: جماعة من الصحابة والتابعين كانوا يكسرون النرد والشطرنج وخطة أربعة عشر وأشباه ذلك من الميسر وهو القمار ولا يسلمون على من يلعب بهم ولا يكرون منزلا إذا علموا أنه يأوي شيئا من القمار بالنرد وبالشطرنج وينكرون عليه أشد الإنكار.

وقال الآجري رحمه الله:-
باب ذكر من قال القمار كله حرام حتى لعب الصبيان بالجوز وبالكعاب وغيرهما.
ثم روى بإسناده عن طاوس , وعطاء , ومجاهد , قالوا: «كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب» .
وذكر عن قتادة في قول الله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب} قال: أما الميسر فهو القمار، وذُكِر لنا أن نبي الله ﷺ نهىٰ عن الكعبتين وقال: «هي ميسر العجم»، قال: وكان الرجل في الجاهلية يقامر عن أهله وماله فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يد غيره، وكانت تورث بينهم العداوة وأضغانا؛ فنهى الله عز وجل عن ذلك ... والله أعلم بما يصلح خلقه.

وفي مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إيّاكم وَهاتانِ الكَعبتانِ الموسومَتانِ اللتانِ تُزجَرانِ زَجرًا، فإنَّهما مَيسرُ العجم"
    
قلتُ: فثبت أن النرد كان متصلا بالميسر (وهو القمار) مقارنا له لا ينفك عنه حتى سُمّي (ميسرا) فالإذن فيه حينئذ يشبه أن يكون إذنا بالميسر، فإذا صار النرد عند الناس منفكا عن المقامرة ولا يلتبس بها ولا يصاحبها إلا نادرا توجّه القول بالكراهة حينئذ، ولاينبغي القول بالإباحة المطلقة لئلا تتعطل الآثار عن العمل بها، وإذا جرّ اللعب بالنرد إلى الحرام حرم قطعا، وهذا يختلف باختلاف أحوال المكلفين.

ولئن نكص الفقيه عن إباحة النرد للنص المرفوع فيها فإن الشطرنج ليست كذلك.

في مجموع الفتاوى [219/32] قال ابن تيمية وهو يتحدث عن الشطرنج:-
«..وقد نُقِل عنه -يعني الشافعي- أنه توقف في التحريم وقال: لا يتبين لي أنها حرام ...».

قلتُ:
فينبغي حمل ما جاء عن الشافعي من الكراهة على أنها للتنزيه لا للتحريم مادام أنه صرّح في موطن آخر أنه لايتبين له أنها حرام.

ولقد كان الشافعي وغيره يعبرون بالكراهة التنزيهية كثيرا، فقال في كتابه (الأم) [177/3] في شأن زكاة الفطر:-
[باب الرجل يختلف قوته]
« ... فإن كان يقتات حنطة فأراد أن يخرج زبيبا، أو تمرا، أو شعيرا كرهتُ له ذلك وأحببت لو أخرجه أن يعيد فيخرجه حنطة .. ولا أُحِب إذا اقتات رجل حنطة أن يخرج غيرها، وأُحِبُّ لو اقتات شعيرا أن يخرج حنطة؛ لأنها أفضل.»

الجمعة، 7 سبتمبر 2018

لاسجود سهو على من شك ثم بنى على غلبة الظن والترجيح !


في التمهيد
من موسوعة شروح الموطأ [523-521/4]:-
«قال أبو عمر: قد قال جماعة من أهل العلم: ... معنى التحري: الرجوع إلى اليقين. (قال أبو عمر) وحجة من قال بالتحري في هذا الباب حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من شك منكم في صلاته فليتحر الصواب..» ... وقد يحتمل أن يكون التحري هو البناء على اليقين ومن حمله على ذاك صح له استعمال الخبرين. وأيُّ تحرٍّ يكون لمن انصرف وهو شاكٌّ لم يـبْـنِ على يقينه، وقد أحاط العلم أن شُعبةً من الشك تصحبه إذا لم يبن على يقينه وإن تحرى، وحديث ابن مسعود عندي ليس مما يعارض به شيء من الآثار التي ذكرناها في هذا الباب.»
إلى أن قال -رحمه الله-:-
«أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر بن الأثرم قال سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا إغرار في صلاة ولا تسليم» فقال: أما أنا فأرى أن لا يخرج منها إلا على يقين، لا يخرج منها على غرر حتى يستيقن أنه قد أتمها.»
-----------------
قلتُ:
من تردد أو ورد عليه شك
فلينظر فإذا ظهر له الصواب سريعا فليبن عليه ولا سجود عليه، كما هو شأن جميع التكاليف الدينية تناط بغلبة الظن ولايشترط لها تحقق اليقين.
وإذا لم يكن الصواب بديهيا ظاهرا باديَ الرأي فلا يشغل قلبه في صلاته بالترجيح بين الاحتمالين أيهما أقوى قرائنَ وأقرب؛ وليبن على اليقين ويسجد سجدتين للسهو. لئلا يخرج عن سمت الصلاة وحضورها.
جاء في الموطأ برقم(212) أن عبدالله بن عمر كان يقول:«إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَوَخَّ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ نَسِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلْيُصَلِّهِ ثُمَّ ليَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَهُوَ جَالِسٌ»
فلم يأمره بموازنة ونظر بين احتمالين بل أمره بطلب إتمام مانسيه بحسب ظنه، وهذا هو البناء على اليقين الذي هو البناء على أقل الاحتمالين.
وهو ما أمره به النبي ﷺ في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:«إذا شكَّ أحدُكم في صلاتِه ، فلا يدري أواحدةً أم اثنتَيْن أم ثلاثًا أم أربعًا ؟ فليُتمَّ ما شكَّ فيه ، ثمَّ ليسجُدْ سجدتَيْن وهو جالسٌ ، فإن كانت صلاتُه ناقصةً فقد أتمَّها ، والسَّجدتان ترغيمٌ للشَّيطانِ ، وإن كان أتمَّ صلاتَه ، فالرَّكعةُ والسَّجدتان نافلةٌ له»
فهذا هو المقصود بقوله ﷺ في حديث ابن مسعود «فليتحر الصواب» لأن الصواب في حق الشاكّ هو البناء على الأقل الذي هو اليقين.
أما من ترجح له سريعا أحدُ الاحتمالين رجحانا ظاهرا فهذه حالة عادية لا تستدعي جبرا بسجود السهو، فهذا قد علم ودرى وبطل عنه الشك وانقطع في حقه التحري.
    (فتحرّي الصواب) يَصدُق على أنواع وصور كلها يصح لغةً أن تُسمّىٰ:(تحرّيًا للصواب) فوجب أن نحمل هذا اللفظ المجمل على ماورد مصرّحا به من البناء على اليقين أي البناء على الأقل، ولأن النوع الآخر من التحرّي فيه تعمّد عملٍ ذهنيّ قد يطول ويُخرج عن سمت الصلاة وخشوعها. أما إذا لم يستحكم الشك وأتت غلبة الظن سريعا بدون تفكر عميق متكلَّف فلا تحري ولا سجود سهو لأنها حالة طبيعية قد تعرض في كل صلاة مع شرود الذهن الذي لا تخلو منه صلاة في العادة. وإنما الكلام في الشك الثابت المستحكم الذي رُفع عنا فيه الحرج بأن نمضي في الصلاة بناءً على الأقل بلا تلكؤ وتوقف، وإلا فقد انفسح مجال واسع للوسواس والتردد المنافي لجوّ الصلاة وسمتها والاسترسال بسلامٍ فيها.

وإذا كثر شكه المستحكم وبناؤه على الأقل(اليقين) في صلواته وخرج عن العادة فلا يعتبره ولا يلتفت إليه وليبن على الأكثر، وهو معذور في هذا بل مأجور لأنه قد عصى وساوس الشيطان، وإذا غلب الشك وكثر جدا فهو وسواس يجب أن لا يُعتبر، فهو مخالف لما جاء في أحاديث السهو في الصلاة لأنها وردت على الحال الطبيعية للإنسان من طروء الشك عليه في الحين بعد الحين. أما من صار في معظم صلواته لايدري كم صلى فليس معنيا بالحديث قطعا ولامرية في ذلك.

ولقد جاءت رواية صريحة عن الإمام أحمد نقلها ابن القيم في [زاد المعاد] أثناء وصفه لمذهبه في المسألة:-
«..وعنه روايتان أخريان، إحداهما: أنه يبني على اليقين مطلقا وهو مذهب الشافعي ومالك...»

وقال ابن حجر في فتح الباري[95/3]:-
«..واختُلِف في المراد بالتحري فقال الشافعية: هو البناء على اليقين لا على الأغلب لأن الصلاة في الذمة بيقين فلا تسقط إلا بيقين. وقال ابن حزم: التحري في حديث بن مسعود يفسره حديث أبي سعيد، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: (وإذا لم يدر أصلى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن)، وروى سفيان في جامعه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخّ حتى يعلم أنه قد أتم. انتهى. وفي كلام الشافعي نحوه، ولفظه: قوله (فليتحر) أي في الذي يظن أنه نقصه فليتمه، فيكون التحري أن يعيد ما شك فيه ويبني على ما استيقن، وهو كلام عربي مطابق لحديث أبي سعيد إلا أن الألفاظ تختلف.
 وقيل: التحري الأخذ بغالب الظن وهو ظاهر الروايات التي عند مسلم، وقال ابن حبان في صحيحه: البناء غير التحري فالبناء أن يشك في الثلاث أو الأربع مثلا فعليه أن يلغي الشك، والتحري أن يشك في صلاته فلا يدري ما صلى فعليه أن يبني على الأغلب عنده. وقال غيره: التحري لمن اعتراه الشك مرة بعد أخرى فيبني على غلبة ظنه وبه قال مالك وأحمد، وعن أحمد في المشهور التحري يتعلق بالإمام فهو الذي يبني على ما غلب على ظنه وأما المنفرد فيبني على اليقين دائما، وعن أحمد رواية أخرى كالشافعية وأخرى كالحنفية ... ونقل النووي أن الجمهور مع الشافعي وأن التحري هو القصد، قال الله تعالى: ﴿فأولئك تحرَّوْا رشدا﴾. وحكى الأثرم عن الإمام أحمد في معنى قوله ﷺ : (لا غرار في صلاة) قال: أن لا يخرج منها إلا على يقين.  فهذا يقوي قول الشافعي.»

الجمعة، 26 أغسطس 2016

مسائل من انتقاض طهارة النائم !

#نوم القاعد:-
الأقرب هو القول بالعفو مطلقا عمن نام وهو ينتظر الصلاة أو يستمع للخطبة؛ رفعا للحرج ولأن الغالب على مثل هذا أنه لايخفىٰ عليه الحدث لو حدث،  بخلاف من اضطجع أو تصنع للنوم. 
 أما من لم يكن منتظرا للصلاة واستغرق في نوم مستقرّ وهو قاعد كالمسافر بالطائرة مثلًا فهذا قد نام النوم المعتاد لمن كان في مثل حاله.

في مجموع فتاوى ابن تيمية [393/21] :-
«..ولمسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أعتم رسول اللهﷺ ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى" فقالﷺ: «إنه لوقتها؛ لولا أن أشق على أمتي». ففي هذه الأحاديث الصحيحة: أنهم ناموا وقال في بعضها: "إنهم رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا" وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة وقد طال انتظارهم وناموا، ولم يستفصل أحدا، لاسئل ولاسأل الناس: هل رأيتم رؤيا؟ أو هل مكنَ أحدكم مقعدته؟ أو هل كان أحدكم مستندا؟ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض؟، فلو كان الحكم يختلف لسألهم. وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل -مع كثرة الجمع- يقع هذا كله. وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أعتم رسول اللهﷺ ليلة من الليالي بصلاة العشاء فلم يخرج رسول اللهﷺ حتى قال عمر بن الخطاب: نام النساء والصبيان. فخرج رسول اللهﷺ فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم: «ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم»  وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس".  . . .وهذا يبين أن قول عمر: "نام النساء والصبيان" يعني والناس في المسجد ينتظرون الصلاة. وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة كالذي ينتظر الجمعة إذا نام أيَّ نوم كان لم ينتقض وضوءه . . . وإنما الناقض النوم المعتاد الذي يختاره الناس في العادة كنوم الليل والقائلة...»

قال ابن عبد البر في التمهيد(من موسوعة شروح الموطأ2\443):-
   "وقال مالك: من نام مضطجعا أو ساجدا فليتوضأ، ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول. وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم، قالوا: من نام قليلا لم ينتقض وضوءه، فإن تطاول ذلك توضأ، وبه قال أحمد بن حنبل. وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه سأل ابن شهاب الزهري عن الرجل ينام جالسا حتى يستثقل، قال: إذا استثقل نوما فإنا نرى أن يتوضأ، وأما من كان نومه غرارا ينام ويستيقظ ولا يغلبه النوم فإن المسلمين قد كان ينالهم ذلك ثم لا يقطعون صلاتهم ولا يتوضئون منه. وسئل الشعبي عن النوم فقال: إن كان غِرارا لم ينقض الطهارة." 
 قلتُ: قال المبرد في الكامل 1\36 : "ومن هذا: غارَّ الطائر فرخه، لأنه إنما يعطيه شيئاً بعد شيء، وكذلك غارّت الناقة في الحلب، ويقال من هذا: ما نمت إلا غرارا، قال الشاعر:
ما أذوق النوم إلا غراراً ... مثل حسو الطير ماء الثماد". 
وفي المعجم الوسيط:"ويقال: جائنا على غرار: على عجلة. والغرار من الصلاة: نقصان أركانها".
 ثم قال ابن عبد البر: "وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا... وقال الثوري والحسن بن حيّ: لا وضوء إلا على من اضطجع. وهو قول حماد والحكم وإبراهيم.
وقال الليث بن سعد: إذا تصنّع للنوم جالسا فعليه الوضوء، ولا وضوء على القائم، والجالسُ إذا غلبه النوم توضأ. ولفظه في الاستذكار:"إذا اتّضع للنوم جالسا فعليه الوضوء، ولا وضوء على القائم والجالسِ، وإذا غلبه النوم توضأ". وروي عن ابن عباس أنه قال:وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق برأسه خفقة أو خفقتين. وقال الحسن وسعيد بن المسيب: إذا خالط النوم قلب أحدكم واستحق نوما فليتوضأ. ورُوي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وأنس بن مالك.-رضي الله عنهم-. وذكره في الاستذكار بلفظ:"...واستغرق نوما فليتوضأ" ثم قال: وبه قال إسحاق وأبو عبيد. وقال المزني صاحب الشافعي: النوم حدث، وقليله وكثيره يوجب الوضوء كسائر الأحداث. قال أبو عمر: هذا قول شاذ غير مستحسن، والجمهور من العلماء على خلافه، والآثار كلها عن الصحابة تدفعه. وذكر عبدالرزاق عن ابن جريج قال: قال عطاء:إذا ملَـكَـكَ النومُ فتوضأ قاعدا أو مضطجعا. وذكَر أيضا عن ثابت بن عبيد قال: انتهيت إلى ابن عمر وهو جالس ينتظر الصلاة، فسلمتُ فاستيقظ، فقال: أثابت؟ قلت: نعم، قال: أسلمت؟ قلت: نعم، قال: إذا سلمت فأسمع، وإذا ردّوا عليك فليُسمعوك، قال: ثم قام فصلى، وكان محتبيا قد نام."
أخرج الطحاوي في شرح مشكل الآثار (٥٥/٩):-
ﻋ‍‍ﻦ‍ ‍ﺟ‍‍ﺎ‍ﺑ‍‍ﺮ ‍ﺑ‍‍ﻦ‍ ‍ﻋ‍‍ﺒ‍‍ﺪ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻠ‍‍ﻪ‍ -رضي الله عنه- ﻗ‍‍ﺎ‍ﻝ‍: "ﻣ‍‍ﻦ‍ ‍ﻧ‍‍ﺎ‍ﻡ‍ ‍ﻭ‍ﻫ‍‍ﻮ ‍ﻗ‍‍ﺎ‍ﻋ‍‍ﺪ فلا ‍ﻭ‍ﺿ‍‍ﻮﺀ ‍ﻋ‍‍ﻠ‍‍ﻴ‍‍ﻪ‍ ﻭ‍ﻣ‍‍ﻦ‍ ‍ﻧ‍‍ﺎ‍ﻡ‍ ‍ﻣ‍‍ﻀ‍‍ﻄ‍‍ﺠ‍‍ﻌ‍‍ﺎ ‍ﻓ‍‍ﻌ‍‍ﻠ‍‍ﻴ‍‍ﻪ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻮ‍ﺿ‍‍ﻮﺀ"

وأقرب مايقال في هذا الباب هو التفريق بين من غُلب علىٰ أمره وهو لايريد النوم وبين من طلب النومَ وقصدَ إليه وهو قاعد فإنك تراه يتكئ ويزول عن حد الاستواء في القعود وإذا أعملنا الآثار في غير هذه الصورة فإنه لايُعدّ تركًا لها بل هو تخصيص لها باجتهاد صحيح.
والأصل هو انتقاض الطهارة بالنوم المستقر المستغرق، فلاننتقل عن هذا الأصل إلا بأمر جليّ لااحتمال فيه ولا إشكال.

 

# نوم المضطجع:-
وصَفَ الشافعي النوم الموجب للوضوء على المضطجع بأنه:"الغلبة على العقل كائنا ذلك ما كان قليلا أو كثيرا، فأما من لم يغلب على عقله مِن مضطجعٍ وغيرِه ما طرق بنعاس أو حديث نفس فلا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن أنه أحدث". ثم قال:- "وإذا شك الرجل في نوم وخطر بباله شيءٌ لم يدر أرؤيا أم حديث نفس فهو غير نائم حتى يستيقن النوم، فإن استيقن الرؤيا ولم يستيقن النوم فهو نائم وعليه الوضوء، والاحتياط في المسألة الأولى كلها أن يتوضأ، وعليه في الرؤيا ويقين النوم وإن قلّ الوضوء".  الأم (٣٦/٢) دار الوفاء.
قلتُ:
 لم يعتبر الشافعي القلة والكثرة هنا لأن النائم لايضبط ولايفصل قليلا من كثير.

# من نام قائما أو راكعا أو ساجدا:-
قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (٥٥/٩) : 
"فهؤلاء ‍ﺃ‍ﺻ‍‍ﺤ‍‍ﺎ‍ﺏ‍ ‍ﺭ‍ﺳ‍‍ﻮ‍ﻝ‍ اللهﷺ ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ ‍ﺣ‍‍ﻴ‍‍ﺎ‍ﺗ‍‍ﻪ‍ ‍ﻭ‍ﺑ‍‍ﻌ‍‍ﺪ ‍ﻭ‍ﻓ‍‍ﺎ‍ﺗ‍‍ﻪ‍ ‍ﻗ‍‍ﺪ ‍ﻛ‍‍ﺎ‍ﻧ‍‍ﻮ‍ﺍ ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻨ‍‍ﻮ‍ﻡ‍ ‍ﻋ‍‍ﻠ‍‍ﻰ ‍ﻣ‍‍ﺎ ‍ﻗ‍‍ﺪ ‍ﺫ‍ﻛ‍‍ﺮ‍ﻧ‍‍ﺎ‍ﻩ‍ ‍ﻋ‍‍ﻨ‍‍ﻬ‍‍ﻢ‍ ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ ‍ﻫ‍‍ﺬ‍ﻩ‍ الآثار قولا وفعلا بلا اختلاف ‍ﻣ‍‍ﻨ‍‍ﻬ‍‍ﻢ‍ ‍ﻓ‍‍ﻴ‍‍ﻪ‍ أنه لا ‍ﻳ‍‍ﻨ‍‍ﻘ‍‍ﺾ‍ ‍ﻭ‍ﺿ‍‍ﻮﺀ‍ﻫ‍‍م إلا ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ خاصٍ ‍ﻣ‍‍ﻦ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻨ‍‍ﻮ‍ﻡ‍ , والأولىٰ ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ ‍ﺃ‍ﻥ‍ ‍ﻳ‍‍ﻜ‍‍ﻮ‍ﻥ‍ ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺨ‍‍ﺎ‍ﺹ‍ ‍ﻫ‍‍ﻮ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺬ‍ﻱ‍ ‍ﺧ‍‍ﺼ‍‍ﻪ‍ ‍ﺭ‍ﺳ‍‍ﻮ‍ﻝ‍ اللهﷺ ‍ﻣ‍‍ﻨ‍‍ﻪ‍ ‍ﻭ‍ﻭ‍ﺻ‍‍ﻔ‍‍ﻪ‍ ‍ﺑ‍‍ﺎ‍ﺳ‍‍ﺘ‍‍ﺮ‍ﺧ‍‍ﺎﺀ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻤ‍‍ﻔ‍‍ﺎ‍ﺻ‍‍ﻞ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ذي لا ﻳ‍‍ﻜ‍‍ﻮ‍ﻥ‍ ‍ﻣ‍‍ﻌ‍‍ﻪ‍ ‍ﺿ‍‍ﺒ‍‍ﻂ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻨ‍‍ﺎ‍ﺋ‍‍ﻢ‍ ‍ﻟ‍‍ﻨ‍‍ﻔ‍‍ﺴ‍‍ﻪ‍ ‍ﻋ‍‍ﻦ‍ الأسباب ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺘ‍‍ﻲ‍ ‍ﺗ‍‍ﻨ‍‍ﻘ‍‍ﺾ‍ ‍ﻭ‍ﺿ‍‍ﻮءه، ‍ﻭ‍ﻣ‍‍ﻌ‍‍ﻘ‍‍ﻮ‍ﻝ‍ ‍ﻣ‍‍ﻊ‍ ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ ‍ﺃ‍ﻥ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻘ‍‍ﺎ‍ﺋ‍‍ﻢ‍ ‍ﻭ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻘ‍‍ﺎ‍ﻋ‍‍ﺪ ‍ﻭ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺴ‍‍ﺎ‍ﺟ‍‍ﺪ ‍ﻣ‍‍ﻌ‍‍ﺪ‍ﻭ‍ﻡ‍ ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ منهم، ‍ﻭ‍ﺃ‍ﻥ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻤ‍‍ﻀ‍‍ﻄ‍‍ﺠ‍‍ﻊ‍ ‍ﻣ‍‍ﻮ‍ﺟ‍‍ﻮ‍ﺩ ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ فيه، ‍ﻭ‍ﺇ‍ﺫ‍ﺍ ‍ﻛ‍‍ﺎ‍ﻥ‍ ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ ‍ﻛ‍‍ﺬ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ ‍ﻟ‍‍ﻢ‍ ‍ﻳ‍‍ﻨ‍‍ﺘ‍‍ﻘ‍‍ﺾ‍ ‍ﻭ‍ﺿ‍‍ﻮﺀ‍ﻩ‍ إلا ‍ﺑ‍‍ﺘ‍‍ﻠ‍‍ﻚ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺤ‍‍ﺎ‍ﻝ‍ ‍ﺣ‍‍ﺘ‍‍ﻰ لاﻳ‍‍ﺨ‍‍ﺮ‍ﺝ‍ ‍ﻋ‍‍ﻦ‍ ‍ﺷ‍‍ﻲ‍ﺀ ‍ﻣ‍‍ﻤ‍‍ﺎ ‍ﻗ‍‍ﺪ ‍ﺭ‍ﻭ‍ﻳ‍‍ﻨ‍‍ﺎ‍ﻩ‍ ‍ﻋ‍‍ﻦ‍ ‍ﺭ‍ﺳ‍‍ﻮ‍ﻝ‍ الله ﷺ ﺛ‍‍ﻢ‍ ‍ﻋ‍‍ﻦ‍ ‍ﺃ‍ﺻ‍‍ﺤ‍‍ﺎ‍ﺑ‍‍ﻪ‍ ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ هذا الباب".
 ثم روى الطحاوي قول أبي هريرة:"ﻣ‍‍ﻦ‍ ‍ﺍ‍ﺳ‍‍ﺘ‍‍ﺤ‍‍ﻖ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻨ‍‍ﻮ‍ﻡ‍ ‍ﻓ‍‍ﻘ‍‍ﺪ ‍ﻭ‍ﺟ‍‍ﺐ‍ ‍ﻋ‍‍ﻠ‍‍ﻴ‍‍ﻪ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻮ‍ﺿ‍‍ﻮﺀ".
 ثم قال:-« ‍ﻓ‍‍ﻘ‍‍ﺪ ‍ﻳ‍‍ﺠ‍‍ﻮ‍ﺯ ‍ﺃ‍ﻥ‍ ‍ﻳ‍‍ﻜ‍‍ﻮ‍ﻥ‍ ‍ﺍ‍ﺳ‍‍ﺘ‍‍ﺤ‍‍ﻘ‍‍ﺎ‍ﻕ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻨ‍‍ﻮ‍ﻡ‍ ‍ﻋ‍‍ﻨ‍‍ﺪ‍ﻩ‍ ‍ﻫ‍‍ﻮ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺬ‍ﻱ‍ ‍ﻣ‍‍ﻌ‍‍ﻪ‍ ‍ﺍ‍ﺳ‍‍ﺘ‍‍ﺮ‍ﺧ‍‍ﺎﺀ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻤ‍‍ﻔ‍‍ﺎ‍ﺻ‍‍ﻞ‍ , ‍ﻭ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ ‍ﺃ‍ﻭ‍ﻟ‍‍ﻰٰ ‍ﻣ‍‍ﺎ ‍ﺣُ‍‍ﻤ‍‍ﻞ‍ ‍ﻋ‍‍ﻠ‍‍ﻴ‍‍ﻪ‍ ‍ﻟ‍‍ﻴ‍‍ﻮ‍ﺍ‍ﻓ‍‍ﻖ‍ ‍ﻗ‍‍ﻮ‍ﻟ‍‍ﻪ‍ ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ ‍ﺃ‍ﻗ‍‍ﻮ‍ﺍ‍ﻝ‍ ‍ﺃ‍ﺻ‍‍ﺤ‍‍ﺎ‍ﺏ‍ ‍ﺭ‍ﺳ‍‍ﻮ‍ﻝ‍ اللهﷺ ‍ﻓ‍‍ﻴ‍‍ﻪ‍ ‍ﺳ‍‍واه، ‍ﻭ‍ﻣ‍‍ﻤ‍‍ﺎ ‍ﻳ‍‍ﺤ‍‍ﻘ‍‍ﻖ‍ ‍ﻣ‍‍ﺎ ‍ﺫ‍ﻛ‍‍ﺮ‍ﻩ‍ ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ ‍ﺍ‍ﺳ‍‍ﺘ‍‍ﺮ‍ﺧ‍‍ﺎﺀ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻤ‍‍ﻔ‍‍ﺎ‍ﺻ‍‍ﻞ‍ ‍ﺃ‍ﻥ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺴ‍‍ﻘ‍‍ﻮ‍ﻁ‍ ‍ﻳ‍‍ﻜ‍‍ﻮ‍ﻥ‍ ‍ﻣ‍‍ﻊ‍ ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍،  ‍ﻭ‍ﻣ‍‍ﺎ لاﻳ‍‍ﻜ‍‍ﻮ‍ﻥ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺴ‍‍ﻘ‍‍ﻮ‍ﻁ‍ ‍ﻣ‍‍ﻌ‍‍ﻪ‍ فبخلاف ‍ﺫ‍ﻟ‍‍ﻚ‍ ‍ﻭ‍ﻣ‍‍ﺎ ‍ﻛ‍‍ﺎ‍ﻥ‍ ‍ﻣ‍‍ﻤ‍‍ﺎ ‍ﻣ‍‍ﻌ‍‍ﻪ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﺴ‍‍ﻘ‍‍ﻮ‍ﻁ‍ ‍ﺇ‍ﻟ‍‍ﻰ الأرض ‍ﻓ‍‍ﺼ‍‍ﺎ‍ﺣ‍‍ﺒ‍‍ﻪ‍ ‍ﻓ‍‍ﻲ‍ ‍ﺣ‍‍ﻜ‍‍ﻢ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻨ‍‍ﺎ‍ﺋ‍‍ﻢ‍ ‍ﻋ‍‍ﻠ‍‍ﻰٰ الأرض فمعقولُُ ‍ﺃ‍ﻥ‍ ‍ﻋ‍‍ﻠ‍‍ﻴ‍‍ﻪ‍ ‍ﺍ‍ﻟ‍‍ﻮ‍ﺿ‍‍ﻮﺀ...».
قلتُ:
 من نام قائما أو ساجدا أو راكعا ولم يسقط فلابد أنه لم يستحق النوم (لم يستغرق فيه بل دخل في أوائله ولم يستثقل) فإن سقط وانتبه مباشرة فلم يمض عليه وقت فلايصح أن يقال عرفا إنه قد نام. أما إن سقط واستمر في نومه فهو مضطجع قد خرج عن حكم القائم والراكع والساجد.
 فالأقرب هو العفو عمن نام أثناء صلاته علىٰ أيّ حالٍ كان.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 395/21  :-
«... وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودا أو قياما في الصلاة أو غيرها فينعس أحدهم وينام ولم يأمر أحدا بالوضوء في مثل هذا.»
     وقد أوجب الشافعي الوضوء على من نام قائما أو ساجدا أو راكعا، وقال في القاعد:"إنما سُلم فيه للآثار" يريد: أنه لولا الآثار لما صح لنا أن نستثنيه برأينا من عموم الأمر بالوضوء لمن نام، فكذلك لا يصح أن نلحق برأينا الساجد والراكع والقائم بالقاعد إلا إذا تساووا في جميع الأوصاف المؤثرة، وهذا ما لم يتحقق في نظر الشافعي حيث اعتبر اعتماد القاعد على أليتيه وصفا مؤثرا في منع خروج الريح غالبا وليس كذلك الساجد والراكع والقائم. بل يقول-رحمه الله-عن النائم راكعا أو ساجدا أنه:"أحرى أن يخرج منه الحدث فلا يعلم به من المضطجع" وهذا لأنه اعتبر سهولة الخروج وصفا مؤثرا مع قوة الغلبة على العقل والاستثقال فقال في النائم مضطجعا:"وأن سبيل الحدث منه في سهولة ما يخرج منه وخفائه عليه غير سبيله من النائم قاعدا".
* وروي عن أحمد إلحاق الساجد بالمضطجع دون الراكع والقائم. وفي رواية: إذا طال نومه. ولعله نظر إلى اعتماده على الأرض فهو يشبه المضطجع في إمكان الاستثقال والاستغراق لا سيما إذا طال السجود. وسبيل حدث الساجد أسهل منه في القاعد.
ففي شرح الزركشي:-

وفي الموسوعة الفقهية الكويتية-في مادة (ألية) ما نصه:-
«يَرَىٰ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا نَامَ وَمَكَّنَ أَلْيَتَهُ مِنَ الأرض فَلاَ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ لأَِمْنِ خُرُوجِ مَا ينتقضُ بِهِ وُضُوءُهُ. وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْمَالِكِيَّةُ هَيْئَةَ النَّائِمِ، بَل الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ صِفَةُ النَّوْمِ وَحْدَهَا ثِقَلاً أَوْ خِفَّةً، وَالْحَنَابِلَةُ يَنْظُرُونَ إِلَى صِفَةِ النَّوْمِ وَهَيْئَةِ النَّائِمِ مَعًا، فَمَتَى كَانَ النَّائِمُ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنَ الأرض فَلاَ يَنْقُضُ إِلاَّ النَّوْمُ الْكَثِيرُ.»

الأحد، 21 أغسطس 2016

الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب ؟

فقرة 478 وما بعدها من [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة]

قال ابن تيمية:-
«..ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة.
 لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يُعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب.
وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقاً، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع.
وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي، لكن إذا عُلم تحريمه وروي حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب جاز أن يرويه، فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب ما لم يعلم أنه كذب، لكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله.

 وهذا كالإسرائيليات يجوز أن يروى منها ما لم يعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما علم أن الله أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا.
فأما أن يثبت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم.

 ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة. ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه. ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح، وضعيف.
 والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال، وإلى ضعف خفيف لا يمنع من ذلك.
...والحسن[في اصطلاح الترمذي] هو ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ.
 فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ويحتج به، ولهذا مثل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما. وهذا مبسوط في موضعه.»

الأحد، 17 يوليو 2016

التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبجاهه وبحقه نقلا وعقلا

       أصل هذا الباب هو: أن الوسيلة التي أرشد الله إلى ابتغائها{وابتغوا إليه الوسيلة} لاتخرج عن كونها عبادةً تقرّب إلى الله ويحبها وبذلك صارت وسيلةً إلى فضل الله ورحمته وهذا هو شأن العبادة أنها قربةٌ يزدلف بها العبد إلى ربه وليس للعبد أن يجتهد رأيه في أمور العبادة بل هي على التوقيف، ودين الإسلام-كما نبه ابن تيميّة كثيرا- مبنيٌّ على أصلين عظيمين هما: ألّا نعبد مع الله غيرَه ، وألّا نعبد الله بغير ما شرع لنا.

     والأصل الثاني في هذا الباب هو: هدي الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استفاض عنهم ترك التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبحقه وبجاهه عند الجدب والجوع العامّ، تركوا ذلك إلى التوسل بدعاء الأحياء منهم، فلو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم مشروعا معروفا عندهم لم يجز عليهم عند شدة الحاجة إليه أن يُعرضوا عنه إلى التوسل بدعاء الأحياء الصالحين وهم أعرف منا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وحقّه ومكانته عند ربه، ولو كان هذا الأمر من أمور المعاش لجاز أن نعلم ما لم يعلمه الصحابة، أمّا وهو من شأن التقرّب واستنزال فضل الله ورحمته فهيهات ثم هيهات ! وقد نُقلت لنا تلك الوقائع بتفاصيلها كما في عام الرمادة وغيره فلو أنهم رضي الله عنهم توسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته أو بجاهه أو بحقه لوجب أن يسترعي ذلك اهتمام النقَلة ورواة الأخبار الذين لا يفرّطون في مثل هذا الأمر العظيم في استنزال رحمة الله لو ورد عن الصحابة فعلُه. 
   هذا في مجال التأصيل بالأمور المجمع عليها وبهدي خير القرون.

     أمّا من حيث الرأي والمناسبة العقلية فهو كذلك، فلا يصح التوسل بذوات المخلوقين أو بجاههم أو بحقّهم مهما بلغوا من الكرامة والمكانة عند الله، ذلك أنّه ليس سببا مناسبا لإجابة الدعاء فهو أمر أجنبيّ عن السائل، وفيه فوق ذلك استخفاف من السائل بأمر الله وشرْعِه إذ أعرض عن ما يحبه الله ودلّ عليه من ذكر أسمائه الحسنى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم والاستكانة والتذلل بالتوبة والاستغفار إلى ما لم يشرعه له من التعزّز بما ليس له والتكرّم بكرامة غيره بطالةً وعجزًا عن ما يسّره الله وشرعه له من الوسائل الكثيرة التي يُستنزل بها فضل الله ورحمته.

    لا شك أن لأنبياء الله وأولياءه جاها عظيما عند الله، لكن هل ينتفع بجاههم كل من ذكرهم في دعائه؟!
# الذي يقتضيه الشرع والعقل أن هذا الجاه العظيم إنما ينتفع به غير صاحبه بأحد طريقين:-
1-   إما أن يدعوَ لك صاحب الجاه في حياته أو يشفع لك في الآخرة بعد إذن الله ورضاه.
2-   وإما أن تتوسل بحبك واتباعك له، لأن ذلك من العمل الصالح الذي يحبه الله ويقرّب إليه.
فمن توسل إلى الله بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع سنته ومناصرة دينه وشريعته فقد توسل بوسيلة صالحة يحبها الله ويرضاها.
## أما التوسل بمجرد الذات فلا الشرع ولا العقل يقتضي كون هذا وسيلةً صالحة في الدعاء، بل هو أبعد عن الإجابة لأنه يزاحم الوسيلة الشرعية التي يحبها الله، وهو فوق هذا فيه معنى الإقسام على الله وإن لم ينوه، فمن توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يقصد التوسل بمحبته واتباعه ونحو ذلك من الأسباب الصحيحة وإنما ذكر النبيَّ في دعائه لمجرّد كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على الله صار كأنه يُقسم به على الله، إذ حقيقة القَسَم هي: ذِكْر معظَّم للتحريض على أمر أو للصدّ عنه أو لتأكيد خبر، ولايجوز الإقسام بمخلوق على مخلوق فكيف يجوز على الخالق؟ سبحانه وتعالى! فمن الأدب مع الله ترْكُ هذا التوسل المبتدَع لأنه يشبه الإقسام بالمخلوق على الخالق وإن لم يكن قَسَما صريحا.


في [قاعدة جليلة..] فقرة (805) وما بعدها، قال ابن تيمية:-
 "وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة، فالمتوسِّـل بالمخلوق إذا لم يتوسل لا بما من المتوسَّـل به[كأن يدعوَ له] ولا بما منه[كمحبته واتّباعه] فبأيّ شيءٍ يتوسل؟!
 والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة:
    فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عنده، وهذا جائز.
   وإما أن يقسم عليه، والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق.
   وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} وسيأتي بيان ذلك.
   وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز، ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلاً. وإن كان لا يقسم به وإنما يتسبب به فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده، ولكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالملائكة والأنبياء، أو منهم كدعائهم، ولكن كثيراً من الناس تعودوا ذلك، كما تعودوا الحلف بهم، حتى يقول أحدهم: وحقك على الله، وحق هذه الشيبة على الله.
 وإذا قال القائل:(أسألك بحق فلان، أو بجاهه) يريد: أسألك بإيماني به، ومحبتي له -وهذا من أعظم الوسائل- قيل: من قصد هذا المعنى، فهو معنى صحيح، لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء، فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك، أو بإيماني برسولك ومحبتي له ونحو ذلك، فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ}
   والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء، وقوله: "أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي: بدعائه وشفاعته لي، ولهذا تمام الحديث:"اللهم فشفّعه فيَّ"، فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه. وقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} فعلى قراءة الجمهور بالنصب إنما يسألون بالله وحده، لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله. وأما على قراءة الخفض فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال: إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلاً على جوازه، فمعنى قوله: أسألك بالرحم ليس إقساماً بالرحم -والقسم هنا لا يسوغ- لكن بسبب الرحم، أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً، ومن هذا الباب ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه.
وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لاريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي" حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه، ولم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال. وإن كان بينهما فرق فإن دعاء غير الله كفر، ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين -لا الأنبياء ولا غيرهم- عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين، بخلاف قولهم: أسألك بجاه نبينا أو بحقه، فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهوراً بينهم ولا فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بل السنة تدل على النهي عنه، كما نقل ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما. قال الشيخ أبو الحسين القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي: قال بشر بن الوليد، سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: "بمعاقد العز من عرشك" أو "بحق خلقك"، وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: "معقد العز من عرشه" هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: "بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام". قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حَقّ للمخلوق على الخالق، فلا يجوز. - يعني وفاقا -، وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما يقتضي المنع أن يسأل الله بغيره.
   ورأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبد السلام قال: "لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح حديث الأعمى" . فلم يعرف صحته. وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه، ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى، ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم.
    والذين يتوسلون بذاته صلى الله عليه وسلم لقبول الدعاء عدَلوا عما أُمِروا به وشُرِع لهم -وهو من أنفع الأمور لهم- إلى ما ليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء، وقد أمر الله بها."

وقال في اقتضاء الصراط المستقيم 319/2 :-
      "وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاءً أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شَفَع فيه وأمَرَه أن يسأل الله قبول الشفاعة، وأن قوله: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: "كنا نتوسل إليك بنبينا" فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال: "يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفّعه فيّ" فطلب من الله أن يُشَفِّع فيه نبيـَّه، وقوله: "يا محمد يا نبيّ الله" هذا وأمثاله نداءٌ يطلب به استحضار المنادَى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما يقول المصلي: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا يخاطب من يتصور في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.

     فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة،
 يُراد به:  
1-التسبب به لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو لكون الداعي محبا له مطيعا لأمره مقتديا به، فيكون التسبب: إما لمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، 
ويُراد به: 
2-الإقسام به والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا لشيء منه ولا شيء من السائل بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه.
      وكذلك لفظ السؤال بشيء، قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام."

 وقال -رحمه الله- في آخر كتاب [قاعدة جليلة...]:-
     "والرسول صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وتحليله وتحريمه، وسائر ما بلّغه من كلامه. وأما في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية والإغناء، فالله تعالى هو الذي يسمع كلامهم ويرى مكانهم ويعلم سرهم ونجواهم، وهو سبحانه قادر على إنزال النعم، وإزالة الضر والسقم، من غير احتياج منه إلى أن يعرِّفه أحدٌ أحوالَ عباده، أو يعينه على قضاء حوائجهم. والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها فهو مسبب الأسباب، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، {يسأله من في السموات والأرض كل يومٍ هو في شأن} . فأهل السموات يسألونه وأهل الأرض يسألونه، وهو سبحانه لا يشغله سمع كلام هذا عن سمع كلام هذا، ولايُـغْـلِطه(1) اختلافُ أصواتهم ولغاتهم، بل يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنّن الحاجات، ولا يُبرِمه إلحاح الملحين، بل يحبُّ الإلحاح في الدعاء. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحكام أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابتهم كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إلى غير ذلك من مسائلهم. فلما سألوه عن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ} فلم يقل سبحانه: "قل"، بل قال تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} فهو قريب من عباده. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر والدعاء فقال: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقربُ إلى أحدكم من عنق راحلته"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يبصقن قِبَلَ وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، ولكن عن يساره وتحت قدمه" وهذا الحديث في الصحيح من غير وجه.
   وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيءٌ من ذاته ولا في ذاته شيءٌ من مخلوقاته، وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرشَ وحملةَ العرش. فالعليّ الأعلى ربُّ السموات والأرض وما بينهما الذي وصف نفسه بقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بحمل أو غير حمل، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الذي كل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه.
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، قد بين فيه التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولاً وعملاً. فالتوحيد القولي مثل سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} والتوحيد العملي {قل يَا أَيُّهَا الكافرون} ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك. وقد كان أيضاً يقرأ في ركعتي الفجر وركعتي الطواف: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية. وفي الركعة الثانية بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. فإن هاتين الآيتين فيهما دين الإسلام، وفيهما الإيمان القولي والعملي، فقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأسْبَاطِ} إلى آخر الآية يتضمن الإيمان القولي والإسلام، وقوله {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} - الآية إلى آخرها - يتضمن الإسلام والإيمان العملي، فأعظم نعمة أنعمها الله على عباده: الإسلام والإيمان وهما في هاتين الآيتين، والله سبحانه وتعالى أعلم."
----------------------------
(1) أغْلَطَه: أوقعه في الغلَط. كما في المعجم الوسيط.