الخميس، 21 فبراير 2019

الشطرنج والألعاب المتطاولة

الشطرنج وأمثالها من الألعاب التي تمتد زمنا طويلا في إشغال القلب والفكر لا ينبغي وصفها بالمباح المطلق، فإن الأمر الذي يلهي القلب ويشغل الفكر الساعات الطويلة عن ذكر الله والعلم النافع والتعبد بما يحبه الله ويرضاه لايمكن أن يكون مباحا إباحة كاملة في دينٍ يدعو للجد والمسارعة في السير إلى الله وتحقيق العبودية له سبحانه وتعالى وهذا بعيد عن رجل مشغول بتلك الألعاب عن الازدياد من العلم والعمل والذكر والقرآن وتدبره ومجالسة أهله والاجتهاد في ذلك.
ولذا فإن القول بالكراهة قول وسط تجتمع فيه مآخذ الشريعة السمحة، أما الاستكثار منه إلى حد الضرر فهو أمر قد يلحق كل مباح فيجعله حراما، ولكن لأن الشطرنج وأمثالها شيء لاتتعلق به حاجة ملحة وقليله يزيّن كثيرَه ويدعو إليه فإن إباحته إباحة مطلقة قول ضعيف لا يناسب روح هذه الشريعة، والله أعلم.

ولكن التحريم العام على كل أحد أن يلعبها غير سديد فقد يلعبها بعضهم يوما في الأسبوع يُجم نفسه لتنشط للجد مرة أخرى، ولابد من شيء من التنفيس، وقد قال علي رضي الله عنه:-«ليس من أحد إلا وفيه حمقة فبها يعيش».
ولقد أحسن الشاعر إذ قال:
لن يُصلح النفسَ إن كانت مصرَّفةً
                                إلا التنقلُ من حال إلى حالِ

وقد قال النبي ﷺ :- «كلُّ شيءٍ يلهو بِه الرَّجلُ باطلٌ إلَّا رميَه بقوسِه وتأديبَه فرسَه وملاعبتَه امرأتَه فإنَّهنَّ منَ الحقِّ».
وإطلاق البطلان لا يعني التحريم وإلا لحرم كل شيء سوى الله حيث صدّق النبي ﷺ كلمة الشاعر: (ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ)
والمقصود: أنه ذاهب مضمحل.
ويمكن بهذا الفهم نسبة عدم التحريم إلى ابن المسيب وابن شهاب فقد روى عنهما البيهقي قولهما إذ سُئلا عن الشطرنج: «هي باطل، ولايحب الله الباطل»

في مجموع الفتاوى لابن تيمية[243/32] :-
«وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم: النرد شَرٌّ من الشطرنج.»

قلتُ:
هذا صريح في أن الشطرنج دون النرد عند هؤلاء الأئمة، وكأنهم لاحظوا أن النرد منصوص عليه في حديث مرفوع إلى النبي ﷺ وليس كذلك الشطرنج، أو لأن ارتباط النرد بالقمار أكثر وأظهر، فهذا ظاهر في أنهم لم يلتفتوا إلى كون الشطرنج يلهي ويُشغل عن ذكر الله وماينفع في الدنيا والآخرة وإلا لكانت الشطرنج شَرًّا من النرد.

وقال رحمه الله [222/32] :-
«..وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي بريدة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه» وفي لفظ آخر: "فليشقص الخنازير" فجعل النبي ﷺ في هذا الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه وكالذي يشقص الخنازير: يقصبها ويقطع لحمها كما يصنع القصاب. وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد سواء وجد أكل أو لم يوجد كما أن غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك سواء كان معه أكل بالفم أو لم يكن فكما أن ذلك ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل ... فكذلك النرد يُنهىٰ عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل.»

قلتُ:-
تشبيه النبي ﷺ اللاعبَ بها بغامس يده في لحم الخنزير ولم يشبّهه بالآكل مع أن الأكل هو المقصود بالتحريم وغمس اليد وسيلة والأكل هو الغاية ، يدل على أن تحريمه كان سدًّا لذريعة المقامرة عليه. والنرد الذي هو الأصل في تحريم الشطرنج قد ارتبط قديما بالقمار والميسر ، وهذا ظاهر في الآثار الواردة فيه.
فمن ذلك ماذكره الآجري في كتابه(تحريم النرد والشطرنج والملاهي):-
- عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي , أنه سمع محمد بن كعب , يسأل أباه في شأن الميسر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لعب بالميسر ثم قام يصلي فمثله كمثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير. أفتقول: يقبل الله صلاته.
ومن ذلك ما رواه عن ابن عباس , قال: «الميسر قداح العرب وكعاب فارس».

★ الميسر هو المقامرة على مال، وإلا فلا يُسمى قمارا ولا ميسرا وكان ارتباط اللعب بالقمار والمخاطرة ولو على التافه من الأموال هو العلة والمناط للتحريم ، فقال الآجري:-
باب ذكر من كان يكسر النرد وخطة أربعة عشر ويحرقها ولا يسلم على من يلعب بالشطرنج وأشباه ذلك.
قال محمد بن الحسين: جماعة من الصحابة والتابعين كانوا يكسرون النرد والشطرنج وخطة أربعة عشر وأشباه ذلك من الميسر وهو القمار ولا يسلمون على من يلعب بهم ولا يكرون منزلا إذا علموا أنه يأوي شيئا من القمار بالنرد وبالشطرنج وينكرون عليه أشد الإنكار.

وقال الآجري رحمه الله:-
باب ذكر من قال القمار كله حرام حتى لعب الصبيان بالجوز وبالكعاب وغيرهما.
ثم روى بإسناده عن طاوس , وعطاء , ومجاهد , قالوا: «كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب» .
وذكر عن قتادة في قول الله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب} قال: أما الميسر فهو القمار، وذُكِر لنا أن نبي الله ﷺ نهىٰ عن الكعبتين وقال: «هي ميسر العجم»، قال: وكان الرجل في الجاهلية يقامر عن أهله وماله فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يد غيره، وكانت تورث بينهم العداوة وأضغانا؛ فنهى الله عز وجل عن ذلك ... والله أعلم بما يصلح خلقه.

وفي مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إيّاكم وَهاتانِ الكَعبتانِ الموسومَتانِ اللتانِ تُزجَرانِ زَجرًا، فإنَّهما مَيسرُ العجم"
    
قلتُ: فثبت أن النرد كان متصلا بالميسر (وهو القمار) مقارنا له لا ينفك عنه حتى سُمّي (ميسرا) فالإذن فيه حينئذ يشبه أن يكون إذنا بالميسر، فإذا صار النرد عند الناس منفكا عن المقامرة ولا يلتبس بها ولا يصاحبها إلا نادرا توجّه القول بالكراهة حينئذ، ولاينبغي القول بالإباحة المطلقة لئلا تتعطل الآثار عن العمل بها، وإذا جرّ اللعب بالنرد إلى الحرام حرم قطعا، وهذا يختلف باختلاف أحوال المكلفين.

ولئن نكص الفقيه عن إباحة النرد للنص المرفوع فيها فإن الشطرنج ليست كذلك.

في مجموع الفتاوى [219/32] قال ابن تيمية وهو يتحدث عن الشطرنج:-
«..وقد نُقِل عنه -يعني الشافعي- أنه توقف في التحريم وقال: لا يتبين لي أنها حرام ...».

قلتُ:
فينبغي حمل ما جاء عن الشافعي من الكراهة على أنها للتنزيه لا للتحريم مادام أنه صرّح في موطن آخر أنه لايتبين له أنها حرام.

ولقد كان الشافعي وغيره يعبرون بالكراهة التنزيهية كثيرا، فقال في كتابه (الأم) [177/3] في شأن زكاة الفطر:-
[باب الرجل يختلف قوته]
« ... فإن كان يقتات حنطة فأراد أن يخرج زبيبا، أو تمرا، أو شعيرا كرهتُ له ذلك وأحببت لو أخرجه أن يعيد فيخرجه حنطة .. ولا أُحِب إذا اقتات رجل حنطة أن يخرج غيرها، وأُحِبُّ لو اقتات شعيرا أن يخرج حنطة؛ لأنها أفضل.»