السبت، 12 سبتمبر 2015

من أسرار محبة العبد لربه وإخباته له

قال ابن تيميّة في النبوات 377/1
"لكن المراد به محبّة مختصة به على سبيل الخضوع له والتعظيم، وعلى سبيل تخصيصها به؛ فيُعبّر عنها بلفظ الإنابة، والعبادة، ونحو ذلك؛ إذ كان لفظ المحبّة (جنس عامّ) ، يدخل فيه أنواع كثيرة، فلا يرضى لله بالقدر المشترك، بل إذا ذُكِر من يُحبّ غير الله، قال تعالى: {وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبَّاً للهِ}، وإذا ذُكِر محبّتهم لربّهم، ذُكِرت محبّته لهم، وجهادهم؛ كما في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِيْ اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَاْفِرِيْنَ يُجَاْهِدُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَلا يَخَاْفُوْنَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ، وفي مثل قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ وَجِهَاْدٍ فِيْ سَبِيْلِهِ} . ولهذا كانت القلوب تطمئنّ بذكره؛ كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ} ؛ فتقديم المفعول يدلّ على أنّها لا تطمئِنّ إلا بذكره، وهو تعالى إذا ذُكِرَ وَجِلَتْ، فحصل لها اضطراب ووجل لما تخافه من دونه، وتخشاه من فوات نصيبها منه. فالوجل إذا ذُكر حاصل بسبب من الإنسان، وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة؛ لأنّه هو المعبود لذاته، والخير كلّه منه؛ قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَاْدِيْ أَنِّيْ أَنَاْ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ وَأَنَّ عَذَاْبِيْ هُوَ الْعَذَاْبُ الألِيْمُ}، وقال تعالى: {اِعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَاْبِ وَأَنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ}. وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجونّ عبدٌ إلا ربّه، ولا يخافنّ عبدٌ إلا ذنبه)) ؛ فالخوف الذي يحصل عند ذكره، هو بسبب من العبد، وإلا فذكر الربّ نفسُه يحصّل الطمأنينة والأمن؛ فما أصابك من حسنةٍ فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك؛ كما قال ذلك المريض الذي سُئل: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعا في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمّنه ممّا يخاف" .
ولم يقل بذكر الله توجل القلوب، كما قال: {أَلا بِذِكُرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ} ، بل قال: {إِذَاْ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُم} ، ثمّ قال: {وَإِذَاْ تُلِيَتْ عَلَيْهمْ آيَاْتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَاْنَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكلُوْنَ}. وإنّما يتوكّلون عليه لطمأنينتهم إلى كفايته، وأنّه سبحانه حَسْبُ من توكّل عليه؛ يهديه، وينصره، ويرزقه بفضله، ورحمته، وجوده. فالتوكّل عليه يتضمّن الطمأنينة إليه، والاكتفاء به عمّا سواه.
وكذلك قال في الآية الأخرى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوْا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْن ، الَّذِيْنَ إِذَاْ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُمْ وَالصَّاْبِرِيْنَ عَلَى مَاْ أصَاْبَهُمْ وَالْمُقِيْمِيْ الصَّلاةِ وَمِمَّاْ رَزَقْنَاْهُمْ يُنْفِقُوْنَ}  فهم مُخبتون. والمُخبت: المطمئنّ الخاضع لله. والأرض الخبت: المطمئنّة.
روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ} ، قال: المطمئنّين. وعن الضحّاك: المتواضعين؛ فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل، كما وصفهم هناك بالتوكّل عليه مع الوجل، وكما قال في وصف القرآن: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُوْدُ الَّذِيْنَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِيْنُ جُلُوْدُهُمْ وَقُلُوْبُهُمْ إِلَىْ ذِكْرِ اللهِ} . فذكر أنّه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله؛ فذكره بالذات يوجب الطمأنينة، وإنّما الاقشعرار والوجل عارضٌ بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقّه، والتعدّي لحدّه؛ فهو كالزبد مع ما ينفع النّاس: الزبد يذهب جفاء، وما ينفع النّاس يمكث في الأرض.
فالخوف مطلوبٌ لغيره، ليدعو النّفس إلى فعل الواجب، وترك المحرّم، وأمّا الطمأنينة بذكره، وفرح القلب به، ومحبّته، فمطلوب لذاته. ولهذا يبقى معهم هذا في الجنّة، فيُلهَمون التسبيح، كما يُلهَمون النَّفَس."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق